إحاطة ديميستورا أمام مجلس الأمن : خطاب متوازن أم تثبيت للجمـود ؟
بين لغة التطمين وتقييد الحسم ، أين يتجه المسار الأممي في ملف الصحراء ؟
يوسف غويركات
في آخر إحاطة قدمها أمام مجلس الأمن صبيحة يوم الإثنين 14 أبريل، حاول المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، ستافان ديميستورا، أن يمسك العصا من الوسط، محافظا على توازن لغوي ودبلوماسي لا يغضب أحدا. فرغم تضمين الإحاطة بعض الإشارات الإيجابية تجاه مبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب، إلا أنها لم تخرج عن الإطار التقليدي الحذر الذي يطبع تعامل الأمم المتحدة مع هذا النزاع، ما يعيد التأكيد على أن المسار لا يزال في طور “إدارة الأزمة ” لا حلها.
خمس نقاط جوهرية في الإحاطة تستحق الوقوف عندها :
أولا: الإبقاء على غموض مفهوم تقرير المصير
من خلال الإشارة إلى “شعب الصحراء الغربية”، و”آلية موثوقة لتقرير المصير”، و”حل سياسي متوافق عليه”، حافظت الإحاطة على المفردات الكلاسيكية للخطاب الأممي، والتي تُبقي الباب مفتوحا أمام التأويلات، دون الحسم في جوهر الحل. ورغم غياب الإشارة الصريحة إلى خيار الاستفتاء، فإن البنية القانونية التي تتحرك فيها الأمم المتحدة لا تزال تعتبر الملف غير محسوم من زاوية القانون الدولي.
ثانيا: اشتراط التوافق ورفض الحلول الأحادية
رغم التقدم الواضح في عدد الدول الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي، تؤكد الإحاطة أن أي حل يجب أن يكون قائما على توافق جميع الأطراف. مما يعني، عمليا، منح البوليساريو والجزائر نوعا من “الفيتو السياسي”، حتى وإن كانتا في موقع دفاع دبلوماسي ضعيف. فالأمم المتحدة لا تقبل الحسم المنفرد، وتعتبر التوافق شرطا أساسيا للحل، ما يُبقي الملف رهينة لمواقف تعرقل ولا تقترح بدائل واقعية.
ثالثا: “التحفظ” على مبادرة الحكم الذاتي
رغم وصف المبادرة بأنها “جدية” و”ذات مصداقية”، فإن الإحاطة شددت على ضرورة أن يكون أي حل “جادا وواقعيا وقابلا للتطبيق”، مع دعوة المغرب إلى تقديم مزيد من التفاصيل حول مقترحه. هذا التحفظ غير المباشر يدل على أن المنتظم الدولي لا يزال يتعامل مع الحكم الذاتي كمقترح قيد الدراسة، لا كأرضية نهائية، وقد يعكس ذلك وجود تحفظات غير معلنة من بعض الدول المؤثرة داخل مجلس الأمن.
رابعـا: مفارقة، حين تتحول الجدية إلى عبء تفاوضي
من اللافت في خطاب الإحاطة، كما في العديد من التقارير الأممية السابقة، أن طلب “توضيح” مضامين مبادرة الحكم الذاتي أو المطالبة بضمانات بشأن “جديتها” يوجه حصرا إلى المغرب، في حين لا تُلزم الأطراف الأخرى – لا سيما البوليساريو والجزائر – بأي توضيح لمضمون مشروعهما السياسي أو مآلاته الواقعية. وهو ما يطرح سؤالا مشروعا حول معايير التقييم داخل المنظمة الأممية.
هذا الانزياح في التعامل يعكس شكلًا من التمييز المعياري، فبقدر ما يُعد الحكم الذاتي مقترحا جديا وواقعيا، يتم التعامل معه على أنه قابل للمساءلة والمراجعة. أما الأطروحة الانفصالية، التي تفتقر أصلا إلى تصور مؤسساتي واضح وقابل للتطبيق، فتبقى في موقع “اللامسؤولية السياسية”، لا تُساءل ولا تُلزم، مما يعفيها من عبء البرهنة ويُبقيها داخل منطقة رمادية لا تحكمها نفس القواعد. خامسا: الإحصاء كشرط أساسي للحماية الإنسانية في مخيمات تندوف
تظل قضية اللاجئين في مخيمات تندوف موضوعا محوريا في النقاشات الدولية، حيث يعكس الاهتمام الإنساني تجاه الأطفال والنساء في هذه المخيمات جوانب من الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعيشها السكان. لكن، السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان المبعوث الأممي دي ميستورا يحمل في قلبه هموم هؤلاء السكان، فلماذا لا يتمسك بنفس الحزم والإصرار فيما يتعلق بمطلب إحصاء اللاجئين؟ فالإحصاء ليس مجرد إجراء فني أو عملية بيروقراطية، بل هو خطوة حاسمة نحو توفير الحماية القانونية للسكان.
إن الإحصاء هو المدخل الأساس لفهم الوضع الحقيقي في المخيمات، ويضمن توزيع المساعدات الإنسانية بشكل عادل وفعال. من دون توثيق دقيق للأفراد الموجودين في المخيمات، يصبح من المستحيل ضمان وصول المساعدات إلى الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها. كما أن الإحصاء يمثل أداة أساسية لحماية حقوق اللاجئين، من خلال توثيق هوياتهم وضمان حقوقهم المدنية والسياسية. الأمر لا يتعلق فقط بالتوزيع العادل للمساعدات، بل بخلق إطار قانوني يضمن حماية هؤلاء السكان من الاستغلال والمخاطر التي قد تهدد حياتهم. إن غياب الإحصاء يعني استمرار الوضع البائس الذي يعيشونه، وتفويت الفرصة لحل سياسي مستدام يضع في اعتباره حقوق الإنسان والشرعية الدولية.
إذا كان الهدف الحقيقي هو تحسين وضع سكان المخيمات، فإن التمسك بمطلب الإحصاء يشكل خطوة ضرورية نحو تحقيق ذلك. فهو لا يتعارض مع الاهتمام الإنساني، بل يعزز من فرص ضمان حقوق هؤلاء السكان وتوفير الحماية اللازمة لهم، مما يساهم في فتح الأفق لحل مستدام لهذه القضية الإنسانية.
وجهة نظر : نحو دبلوماسية مغربية أكثر صلابة في مواجهة ازدواجية المعايير
هذه ملاحظاتي بشأن إحاطة المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا. أعتقد أن استمرار غياب الصرامة في فرض معايير موحدة على جميع الأطراف يُفقد العملية السياسية جديتها، ويُكرس حالة الجمود بدل أن يفتح أفق الحل.
إن هذا الوضع يُحتم على الدبلوماسية المغربية أن تواصل المطالبة بمعاملة متكافئة لجميع الأطراف، إما من خلال الاعتراف الصريح بواقعية الحكم الذاتي وكونه الحل الوحيد القابل للنقاش، أو من خلال إلزام باقي الأطراف بالكشف عن تفاصيل مقترحاتها والبرهنة على قابليتها للتنفيذ. فاستمرار الكيل بمكيالين لا يخدم منطق الحل، بل يكرس الجمود ويُفرغ المفاوضات من مضمونها الجاد.
وفي هذا السياق، على المغرب أن يواصل التحرك وفق مقاربة مزدوجة: أولا، تثبيت الاعترافات والدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها حلا واقعيا وقابلا للتطبيق، وشكلا من أشكال تقرير المصير، مع الانفتاح على تقديم توضيحات مدروسة تبرز مضمونها الديمقراطي والجهوي. وثانيا، تعميق حضور المملكة في الأقاليم الجنوبية من خلال النماذج التنموية والاندماج المؤسساتي، بما يُحول الحكم الذاتي من مجرد مبادرة دبلوماسية إلى واقع عملي متجذر، تتقاطع معه مصالح دولية وشراكات إقليمية تجعل من تجاوزه خيارا غير واقعي، بل مستحيلا.
بهذه الرؤية، يمكن للمغرب أن يعزز موقعه كطرف مسؤول وفاعل، يطرح حلولا عملية ويجعل من أي طرح خارجها فاقدا للجدية والمصداقية.