آخر الأخبار

آلات بـيــولــوجــيــة

سـعـد سـرحـان

لا أقصد بالآلات هذا العُضو أو ذاك الشِّلو من جسد الإنسان، مثلما لا أضع هنا كلمة بيولوجيّة في مقابل كلمة اصطناعيّة كما قد يتبادر إلى الأذهان، وإنّما أعني تلك الأدوات الافتراضية التي لا توضع في جيب أو معصم أو محفظة… ومع ذلك، فدورها في حياة المرء الواقعية لا يقلّ أهميّة عن دور غيرها من أدواته الماديّة.لنفكّر إذن، ودون ترتيب معيّن، في السّاعة والهاتف والنظّارات والشّاشة والمحسبة.منذ وعيه الأول بالزمنْ، والإنسان يجترح له الكمينَ تلو الآخر والرّسن تلو الرّسنْ، في محاولات لا تنتهي، استعمل فيها الظلَّ والرملَ والماء والشّمس والنجوم…قبل أن يوثقه حِليَة إلى معصمه.ولأنّ الزمن هو مادّة الحياة التي لا يملك الإنسان أنفس منها، فقد جعله نصب عينيه حيثما ولّى وجهه، حتى صارت السّاعة جزءًا من كلّ جهاز، فهي الآن في المحمول كما في السّيّارة، وفي الثّلاجة كما في الفرن الكهربائي.ولعلّ من سكّ عبارة “الوقت من ذهب” لا يعلم إلى أيّ حدّ بخس الوقتَ قيمته، ذلك أنّه رحل قبل أن يرى السّاعات المرصّعة بالألماس، ويشهد كيف أنّ جزءًا يسيرًا من الثانية قد يقود إلى الذّهب الأولمبي وما يترتّب عنه من بريق. وحتى قبل وعيه بالزمن وهوسه به، كان الإنسان يملك ساعته الخاصّة، السّاعة التي ليس الحرّ والقرّ، الجوع والعطش، النّوم والشّهوة، الهرمونات ونبض القلب… سوى بعضٍ من عقاربها؛ ولمّا كانت من لُحمته وسَداته فقد سمّاها: السّاعة البيولوجية.
وإذا كان للزمن من وجه مستعار، يسعى به في دروب الحياة، فهو الحساب؛ لذلك أولاه الإنسان أهميّة قصوى، ولأجله اخترع، قديمًا، تلك المِحسبة العجيبة التي من طين مَفْخور وبأرقام من حصى، وهي أقدم سلف معروف لأكثر الآلات الحاسبة تقدّمًا، مثلما طوّر علومًا لأجله وأنشأ معاهد عليا متخصّصة، يتخرّج منها سادة وسدنة الأرقام.فكلّ شيء عند الإنسان بحساب: من حساب الحمل حتى يوم الحساب، مرورًا بحساب الأيام والشهور، وحساب الرّبح والخسارة، والحساب البنكي والحسابات الشخصية، ودفع الحساب ساعة الحساب. فلا عجب أن أصبحت الفواتير والتذاكر، وهي من صلب الحساب، تشكّل فسيفساء حياته، وباتت المحسبة كامنة في المحمول والساعة والحاسوب.غير أنّ ما من مِحسبة في العالم تُغني الإنسان عن محسبته البيولوجية، فهي التي تدقّق له أكبر حساباته، وتحسم له أصغر قراراته؛ فلولاها لما استطاع حتى أن يجتاز الطريق بسلام، فقبل أن يفعل، تُقدّر له مِحسبته الخارقة سرعةَ هذه السّيارة وتلك الدّراجة والمسافة بينهما، وتقرّر له سرعةَ الاجتياز ومسارَه، مستعملةً في ذلك معادلات رياضية عويصة قِوامها القياس الجبري والحساب المثلثي وهلمّ جبرًا…وكلّ ذلك في ثوان معدودات؛ وما من خطأ في تقديرها إلّا ويدفع ثمنه غاليًّا، إذ يرمي به إلى الإسفلت ويُسطّر عليه بالدم.وشأن الآلات الذّكية متعدّدة الاختيارات، تقوم المِحسبة البيولوجية بأدوار أخرى، فهي على سبيل المثال آلة غسيل حين يكون الحساب صابونًا، وهي مِصفّاة ساعةَ تكرير الحساب.على رأس ما يطبع الحياة المعاصرة نجد الشاشة بكلّ تأكيد. فبعد أن كانت منها واحدة على الأكثر في كلّ مدينة مع ظهور السينما، فمثلها في كلّ حيّ مع اختراع التلفزيون، أضحت في كل جيب وفي كلّ محفظة مع ظهور الحواسيب واللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية…وليت الأمر توقّف عند الشّاشات التي بات عددها يفوق بكثير عدد البشر على الأرض، وإنّما تعدّاه إلى القنوات، إذ أصبح بإمكان كلّ من هبّ ودبّ أن يطلق قناته الخاصة، فيتفرّج الناس عليه في “حلقة” لو اجتمعوا لها لضاقت عنهم كلّ ساحة. وللمفارقة، فهذه القنوات كلّما هزلت يسمن رصيدها، حتى صار الإسفاف برنامجها شبه الموحّد. وبفضل هذه الإبَّالة من قنوات “هيّ بن بيّ” بتنا في بحبوحة من البثّْ، وأصبحنا على رغد من الغثّْ، ولسنا ندري كيف سنغدو لو انضاف إليها أيّ ضغثْ.لكن، قبل ظهور هذه الشّاشات، هل كان الإنسان من دون شاشة تبث؟ أليست المخيّلة شاشته البيولوجية التي تفرّجه أحيانًا على أشرطة رائعة من إخراجه وبطولته هو شخصيًّا؟ فعلى إحدى قنواتها يتفرّج على رومانسيّته، وأمام أخرى يسهر مشاهدًا غرامه وانتقامه، وعلى ثالثة، وهي غير مشفّرة، ينتشي باستيهاماته…يقينًا أنّ المخيّلة هي أهمّ ما امتلك الإنسان في كلّ العصور؛ فهي التي أفرزت الخرافات والأساطير وغيرها مِمّا هَنْدَسَ العالم القديم، وعلى شاشتها تنعكس الخطوط العريضة لعناصر الحضارة قبل أن يتمَّ تدقيقها في المختبرات والمصانع والزّج بها في الحياة.وإذا كان الإنسان مدينًا بمجده لكلمة بعينها، فإنّ هذه الكلمة عندي هي: الخيال.
لا يستقيم الحديث عن الشاشة دون التّعريج على الهاتف، فمنذ أن صار هذا بتلك تضاعف سحرهما معًا، إذ هي له الآن كالقبعة للحاوي: تورد وتصدر، تكتب وتحسب، تبشّر وتنذر، تشيع تذيع، تشهر وتشهِّر، تسِرّ وتجهر، تسجّل وتصوّر… ولا ندري ما تفعل غدا.غير أن الإنسان، قبل ظهور الهاتف ذي الأمعاء الدقيقة والغليظة وخَلَفه الذي يشي بمن الهاتف الدّاعي، امتلك، كان دائما مزوّدًا بهاتفٍ بيولوجي، يتنبّأ بالأخطار ويتوقع الأخبار… هاتفٍ برنين في القلب ورفيف في العين.وعلى ذكر العين، فالمثل المغربي البليغ يقول: عيناك ميزانك، فهما حقًّا كفّتاه والأنف رُمّانته، وبهما كان الإنسان يُقسط قبل أن يقسط في الميزان.ولمّا كانت العين تحسر وتعشى وتشيخ…فقد اخترع لها الإنسان النّظارات الطبيّة من مختلف العدسات لتصحّح منه البصر. أمّا البصيرة فلا بد أنها نظاراته البيولوجية التي تُشكّل جزءًا لا يتجزّأ من عين العقل.وليس هذا الأخير، أقصد العقل، سوى حاسوب بيولوجي دونه كلّ الحواسيب؛ فذاكرته آلة تسجيل بيولوجية إليها يعود الفضل في حفظ معظم التراث الشفوي؛ ولنا فقط أن نتخيّل أيّ نوع منها تمتّع به أولئك الرواة الذين حملوا إلينا، ضمن ما حملوا، قرونًا من الشعر، بعد أن قطعوا بها المفازة الكبرى بين الشّفاهة والكتابة.فمن الصّعب حصر ترسانة الإنسان من الآلات البيولوجية، لكن من السهل ملاحظة حرصه على توزيع جسمه في جسوم كثيرة، منذ أن قَدَّ من الحجر مطرقةً على شكل ساعده وقبضته حتى صناعته لشريك الحياة في خدمات شتّى تمتدّ حتى السّرير.
فمنذ وجود الإنسان على الأرض، وهو يُصَنِّعُ نفسَه بالتّقسيط، إلى أنِ استتبّت له نفسه بالكامل، فبات يُصنّعها بالجُملة، فإذا هي رُبوتات تسعى…وقد لا ننتظر طويلًا قبل أن تتكاثر هذه فنضطر، للتّميّز عنها، إلى الحديث عن الإنسان البيولوجي.