الغالي وحمدون
في ذاكرتي، ابتدأ كل شيء في فرنسا برفيقين اثنين: الرفيق «عيسى» الذي يكتب لي بالفرنسية كنت أظنه اسما مستعارا كما جرت العادة في تلك الأوقات. حتى كنت عند بنسعيد صيف 1973 فإذا بشاب أنيق الهندام، وقلما كان الرفاق يتأنقون رغم وجودهم في عاصمة الأناقة، بلحية أنيقة كذلك، قدمه لي مسداد قائلا: هذا هو «الغالي» الذي كنت تبحث عنه؛ وأردف: الرفيق عيسى. أرجعني سماع اسم الغالي إلى زمن توحيد الحلقات وتأسيس 23 مارس. تحملت في التنظيم الجديد مسؤولية عضو اللجنة المحلية للدار البيضاء بجانب رفيقين آخرين: «ابراهيم» (رشيد فكاك) عن حلقة حرزني، و«لطفي» (عبد الرحمن..؟) عن حلقة «المعطي» (سيون أسيدون) ؛ نسير الدار البيضاء بواسطة الخلايا التي يعرف كل واحد منا كتاب الخلايا المسؤول عنها فقط. كاتب إحدى الخلايا واسمه «الناجي» بدأ بعد بضعة اجتماعات يشكو من بعض التغيبات في الخلية ومنها تغيب الغالي ثم انقطاع الصلة به تماما حتى عثرت عليه عند بنسعيد فإذا هو عيسى الورديغي.
أما حمدون (عبد الغني أبو العزم) فترجع علاقتي به إلى سنة 1965 بكلية الآداب. وعندما ذهبت إلى فرنسا وجدت بعض رفاقه الخلص ينادونه بـ«الزعيم». لم أحاول أن أعرف أسباب النزول ولكني تذكرت أيام الكلية بفاس وكيف أنه كان يريد أن يكون في كل مكان وفي نفس الوقت: في النقابة (كاتب التعاضدية) وفي الحزب وفي الشعر وفي الحب، ويتحول الى دبلوماسي حينما يحاول أن يقنع علال الفاسي بإلقاء محاضرته ولكن في إطار الاتحاد الوطني وليس في إطار الاتحاد العام الذي استدعاه، والذي لايتوفر على جمهور باستثناء طاقمه المسير. ولكن الزعيم (علال) يتشبث بموقفه «ولو طارت معزى».
«زْعامة» عبد الغني تبلغ أوجها أوائل 1967 سنة تدشين القمع في ظهر المهراز بالهجوم على الحي الجامعي واعتقال عدد من الطلبة بشكل عشوائي. كان أبو العزم غائبا في الرباط في إطار التحضير للمؤتمر الثاني عشر الذي سيحمل رئيس لجنة صياغة دستور 2011، عبد اللطيف المنوني الى رئاسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
لما حضر مساء نفس اليوم أخبرناه بما جرى فقفز في أول «داكسي» الى الكوميسارية وحقيبته التي تحمل منامته وأوراقه ما تزال في يده للاحتجاج على اعتقال الرفاق. فلم يظهر له ولا لهم أثر منذ ذلك اليوم والى نهاية السنة الدراسية حيث عادوا أحياء من جحيم الاعتقال في أقاصي الصحراء بعد أن وقعوا على أوراق تشهد أنهم كانوا متطوعين لفائدة التعاون الوطني.
تزامنت عودتهم مع الامتحانات التي لم يشاركوا فيها ومع المظاهرات التي كان يخرج فيها جميع الطلبة يتقدمهم أساتذتهم تنديدا بالهزيمة.
وفي يوم 9 يونيو وعبد الناصر يخطب في الراديو معلنا استقالته، سيصرخ عبد الغني أبو العزم بكل قواه: «الحمار..! هل هذا وقت الاستقالة..؟!» في اليوم الموالي سيتراجع عبد الناصر عن استقالته.