عبد الصمد بوحلبة
في قاعة المطالعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، عام 1992..تعرّفت على القاص المغربي أنيس الرافعي، المعروف حاليا عند المغاربة والعرب، بفضل إصداراته القصصية الغريبة: “علبة البندورة” و “اعتقال الغابة في زجاجة” و “ثقل الفراشة فوق سطح الجرس” و “البرشمان” و “السيد ريباخا” و “الشركة المغربية لنقل الاموات” و “مصحة الدمى” و “متحف العاهات” و “خياط الهيئات”..كان آنذاك طالبا متمردا على الأهل والأصحاب والأعراف! ضبطته في نفس القاعة، متلبساً بسرقة أدبية، في أولى محاولات اشتغاله على عوالم التجريب، عبر تيهه في خربشات قصصية، لا تمت لأسس كتابة القصة القصيرة التقليدية المتعارف عليها بصلة.. وهو ما أغضبه كثيرا، خصوصا، بعد همسي له، في ذروة تلاوته إحدى قصصه القصيرة على مسامع زمرة من الطالبات والطلبة بانتشاء ظاهر: “..أليس هذا المقطع الرائع والسليم المعنى والمعافى من شطحاتك، مقتطفا من كتاب “خواطر بليز باسكال”..فلماذا لم تضعه بين قوسين..؟!” رمقني بنظرة قاتلة، كانت كافية لأفهم أن البطاقة الحمراء قد أْشهِرت في وجهي، مبكرا جدا.! فصار على دربه المحتال بإصرار والمختار بعناية وترصّد، ومشيت في طريق القراءة والتوجس من لعنة الكتابة..فكان بديهيا، بعد أكثر من عقدين على فضائحه التجريبية وحصاده الكثيف الذي لا يخلو من شبهات، أن يصرّح في حوار له مع الجزيرة نت: “الجماعات الأدبية (في المغرب) لا تصنع كاتبا، مثلها مثل البيانات، قدر الكاتب فردي بامتياز، يحمل أوجاع الكتابة في قلبه، وحيثما مالت به الكتابة يميل..”!!
وحتى اليوم، مازال وفيا لشعاره: “خد من هناك ومن هنا وقلُ هذا كتابنا” أمام تواطؤ النقاد، وصمتهم المهين عن غزواته الكتابية، الذي يشبه صمت الغفران، حتى لا أقول صمت الخرفان! كانت الطالبة الجميلة خديجة شاهدةً على هذه الواقعة، وجدتها هناك في خزانة الكلية، حين تعارفنا، تقلّب صفحات كتاب “ثقافتنا” شدّني حضورها المتوّج بحياء نادر، أو لنقل توّجت حضورها المتلأليء بطلبها الإذن بالجلوس على الكرسي الفارغ بجانبي..قلت لها بسرعة واضحة، تحت وطأة جمالها المعزز بتواضع أقرب إلى الكبرياء: -تفضّلي أرجوك! كنت أقرأ بمتعة أنانية “خواطر باسكال”..قالت لي وهي تجلس مرتبكة قليلا، بسبب عطب غير ظاهر في الكرسي: شكرا يا أخي..فهمست قائلا بجرأة طارئة: أليس التواضع نعمة؟! -عفواً..! تسألتْ بتوتر ظاهر..أجبتها وأنا أدفع نحوها الترجمة الرائعة لمؤلَّف الفيلسوف الفرنسي المغبون بليز باسكال: إنها مقولة بسكال في هذه الخاطرة! وأضفت مستغلا ارتباكها الواضح بفعل الكرسي الذي أحببته كثيرا: -أنت متواضعة جدا وجميلة جدا وأنا أعتذر صراحة..بدت شاردةً وهي تقلب الصفحة تلو الأخرى، وعدت لأقول بأدب جم: “ثقافتنا”..! يبدو كتابا جديرا بالقراءة، على الأقل من خلال العنوان.. -خذه إذن ولخّصه لي، فأنا مطالبة بتلخيصه ضمن المقرر السنوي.. -بكلّ سرور، ثم ألقيت على مسامعها خاطرة أخرى وأنا أسترجع الكتاب بلياقة: “كثرة التعجب تفسِد كلّ شيء” -ماذا تقول؟! عقّبت بسرعة: -هذا ما تقوله الخاطرة التالية لباسكال..قالت: دعني أرى فأنا لم أصدقك هذه المرة..فقرأتْ حيث وضعتُ أصبعي، ثم تمتمت بارتياح مستعذب: -صحيح..ولكن ماذا يعني الكاتب؟! قلت بثقة زائدة في النفس، مصدرها الوحيد صمودي الكبير أمام سحر جمالها الكامن في ذلك الجزء الغامض من شخصيتها: -أشياء كثيرة تفقد بساطتها عندما نصرّ على انتهاك خصوصيتها..أعتقد أن هذا ما يقصده باسكال! -ربما..ولكن ماذا تقصد أنت، هل هذا هو أسلوبك في التحرش بالجنس اللطيف؟ قلت بشغف كبير، بل وكنت مستعدا لأقسم على ذلك: -لا..أبدا، لست من ذلك الصنف..ضحكت ضحكة لم أشك في براءتها، وبدا لي أن الأمور تمضي كما أشتهي، فقلت لها وأنا أمني نفسي بقبول كريم: -مجرد صديق..أقصد أني أطمع في صداقة مجردة..ردت عليّ وفي شفتيها ابتسامة بطعم الانتصار: مجرد صداقة إذن. هكذا تعارفنا..وبعد يومين أعدت لها كتابها، مقِرا بفشلي في مهمة التلخيص..لم يعجبني الأسلوب الذي كتب به “ثقافتنا” وبالأحرى لم تشدني لغة الكتابة كما شدتني لغة الترجمة..هناك فرق شاسع بين الأسلوبين! كانت دائما قراءة الأعمال المترجمة إلى اللغة العربية تبدو لي أروع بكثير وأصدق من إبداعات أدبية كُتِبت بالعربية!.