عن منشورات مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، يصدر قريبا كتاب”أوراق من دفاتر قديمة” لعبد الرحمن زكري .
يقع الكتاب في 528 صفحة من القطـع الكبـير، وهو تجميع لعـدد من كتابات المؤلف، بعضها نشر في منابر مختلفة في الفترة الممتدة من 1983 حتى 2021، وبعضها جديد، أغلبه أنتج خلال الحجر الصحي الطويل، الأول بالخصوص.
الكتاب إهداء واستعادة لذكرى رفاق فقدَ المؤلف أغلبَهم في الأربع سنوات الماضية، وهم بالترتيب الزمنيّ: عبد الله مينّي، عبد السلام حيمر، أحمد الوردي، رحمة ثابت، جبور التهامي، عبد القادر تقي الدين، حسن العدناني وشكيب أرسلان…
تنتظم محتويات الكتاب وفق دفاتر، كل دفتر منها يخص صنفا كتابيا مستقلا، هو إما مقالات (فكرية وسياسية وتنظيمية)، أو تقارير، أو تقديمات لإصدارات، أو عروض(داخلية أو خارجية)، أو أرضيات (لاستكتابات أو لندوات)، أو رسائل (لهيآت و لأفراد)، أو تحقيقات، أو متابعات، أو كلمات ألقيت في مناسبات…إلخ .
إلى جانب النصوص ذات الطبيعة الفكرية والإيديولوجية والسياسية العامة، حظيت تطورات الشأن المحلي السياسية والاجتماعية بمدينة المحمدية بحضور قويّ، سواء ما اتصل منها بالعلاقات مع السلطات المحلية(خلال الفترة التي تحمل فيها المؤلف المسؤولية منذ أول لجنة محلية مؤقتة، تأسيسية لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي بالمحمدية أواسط 1983 ، حتى انعقاد مؤتمرها المحلي الثالث في 1994)، وما عرفته تلك العلاقات في بعض المراحل من عُقد وأزمات، ومن تضييقات وانتقامات ضد المنظمة كهيأة، وضد عدد من مسؤوليها ومناضليها كأفراد…أو ما تعلق منها بالعلاقات مع قوى الصف الوطني الديمقراطي، وخاصة منها الاتحاد الاشتراكي الذي جمعته مع منظمة العمل في البداية أكثر من ساحة نضال حققا في بعضها، بمعية قوى تقدمية أخرى مكاسب راسخة وهامة رغم محدوديتها كمّيا، قبل أن تتحول ساحات النضال المشترك تلك، في أغلبها أو في كليتها، إلى حلبات مواجهات ونزالات بين الطرفين تزداد طرديّا حدة وحماوة، كلما بدا أن عود المنظمة ينمو ويتقوى أكثر…إلى أن استقرت الأمور في النهاية على مايشبه قطيعــة سياسية رسميـــة بين الطرفين …
كانت ساحة الصراع الأولى، هي المجلس البلدي للمدينة(الاتحادي)، وبالضبط، عندما بدأ نوع من قطيعة جوفية وصامتة يتأكد أكثر فأكثر، بين تجربة الاتحاد الاشتراكي في ولايته الأولى(1984)، عندما كان مايزال ملتصقا بحاضنته الشعبية، وعندما كان عدد من أطر الصفّ الأول، المسيّرة فيه، على درجة كبيرة من الإخلاص والإنتاج ونظافة اليد… وبين تجربة ولايته الثانية التي ستشهد تراجعات وحتى انحرافات لن تستطيع القيادة الحزبية المحلية إيقاف مدّها، وهي التي لم تعد بيدها السلطة التوجيهية والرقابية الكافية على كل مستشاريها في المجلس، خصوصا وأن بعض النافذين ضمنهم عناصر ترشحت باسم الاتحاد فيما هي لا يجمعها بالاتحاد وبتراث الاتحاد سوى الخير والإحسان…
أما ساحة الصراع الثانية، فكان مجالها النقابــة والعمـل النقـابي، الذي سيشهـد هو الآخر تـوترات وأزمـــات،
انتقلت بسرعة من مستوى بعض النقابات القطاعية(كالتعليم وسامير بالخصوص)، إلى مستوى الاتحاد المحلّي، ليبلغ مستوى النقابات الوطنية(المؤتمر الوطني السابع للنقابة الوطنية المشهور، المنعقد بالمحمدية(يوليوز 1995)، وليتم تتويج الكل في المؤتمر الأشْهَر، مؤتمر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، المنعقد في مارس 1997 بالدار البيضاء.
وربما تكون وقائع هذه التجربة المحلية هي التي دفعت صاحب “الأوراق”، وهو يقوم ببعض التقريبات بين المحليّات والوطنيّات، إلى الاستنتاج بأن مدينة المحمدية “كانت واحدا من المواقع التي انعكست فيها بشكل مبكّــر، وبما يكفي من الوضـوح
والشفافية، الملامحُ الكبرى لوجهة الصراع في المرحلة بين الحكم من جهة، والقوى الحية في البلاد من جهة أخرى، وبين الاتجاهين الأساسيين المتصارعين داخل هذه القوى نفسها، أي اتجاه الاعتراض، بناء على حدّ أدنى توجيهي وبرنامجي موحّد، قاعدته ميثاق الكتلة الديمقراطية وبرامجها، في التعامل مع سياسات الحكم ومبادراته، وبما يحافظ للحركة التقدمية الديمقراطية على مصداقيتها في أعين جمهورها، ويسمح لها، إن لم يكن بالبناء عليه لانتزاع مكاسب جديدة، فأقلّه بعدم تبديدها لباقي أوراق القوة(النسبية) المعنوية والسياسية التي مكانت ماتزال بيدها…واتجاه السّعي للخروح بأسرع وقت، ليس فقط من موقع المعارضة، بل أيضا من ثقافة المعارضة، أو على الأقل تحويلها من ثقافة معارضة لنظام حكم، ولخيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كاملة، إلى ثقافة معارضة لحكومات محكومة لا سلطة لها ولا برامج، وهو الاتجاه الذي انتهى به الأمر في نهاية المطاف، إلى تولّي قيادة نسخ محسّنة من تلك الحكومات، بقيادة الزعيم الراحل عبد الرحمان اليوسفي، في ظل “عهد جديد”، بدون تعاقدات ولا ضمانات، وعلى قاعدة تدبير للقرار الحزبي ّالداخليّ، السياسي والتنظيمي، أقل ما يمكن أن يقال عنه، من حيث الشكل على الأقل، أنه لم يكن تقليديا فقط، بل هو نفسه سيستعمل لاحقا كأقوى حجة لتبرير التقليد في كل مكان، في دائرة المجتمع السياسي(الدولة)، كما في دائرة المجتمع المدنيّ(الأحزاب والنقابات والجمعيات…)، وذلك تحت راية الأمر القطعيّ ل “التوافق”، كلمة سرّ المرحلة .”
ويضيف المؤلف، أنه على خلفية هذا المشهد الحاكم، ستتم “أكبر عملية تخريب ذاتيّ، من الداخل، لمكتسبات عقود من التضحيات والبناءات السياسية والتنظيمية الشاقة في الأحزاب التقدمية على مدى أجيال، وفي قطاعاتها ومنظماتها الجماهيرية، النقابية، والشبابية، والنسائية، والثقافية، والإعلامية والحقوقية…وأكثر من ذلك، سيتم نقل الهجمة إلى مستوى الوعْي والإرادة…وهي الهجمة التي ستجد من داخل الاتحاد الاشتراكيّ، من سيتطوع لقيادتها، عبر توجيه السلاح للخلف، نحو معسكره الخاصّ، وبإطلاق موجة ردّة وتنكّر للهوية، وللتاريخ، ولتضحيات أجيال من القادة والمناضلين…لم تقف آثارها المخربة عند حدود حزب الاتحاد…بل انعكست على كل ما تبقى من ألوانٍ في طيفٍ “تقدمي”… كان ، و”يساريّ،” …يحاول أن يكون، وهو يتطلع أحيانا بأبصاره بعيدا بعيدا نحو القمر، فيما أقدامه، وعاداته وسجلّ أمراضه المزمنة، ترجع به القهقرى خطوات إلى الوراء، عقب كل خطوة يخطوها إلى الأمام في الاتجاه الصحيح…حتى عدد من ديناميكيات المجتمع، المستقلة بهذا القدر أو ذاك، ستلقي راياتها القديمة وتندرج هي الأخرى، طوعا أو كرها، في الصفّ، صفّ السلك الخاص، لولوج نوادي الزبونية والريع والفساد…”
التقارير الصحفية والمتابعات، تغطي من جهتها مساحة هامة من الكتاب…وتدور كلها حول بعض فصول وارتدادات هجوم الرأسمال في المدينة، وهي أحد المراكز الصناعية الهامة في البلاد على أوضاع الطبقة العاملة، بممارسة أقوى الضغوط على حقوقها الاجتماعية النقابية بأدوات “شرعية” جديدة ك”مرونة الشغل”، و”حرية العمل”…وانتقال السلطة في معظم المعارك، بالتدريج، من موقع المتفرج، إلى موقع المتواطئ، ثم إلى موقع الشريك الذي لا يتردد في اللجوء لكل صنوف القمع والتنكيل، بواسطة القوة العمومية، لحماية مصالح خاصة لباطرونا الأموال والأعمال، محلية وأجنبية…
ولذلك، احتلت مواكبة نضالات الطبقة العاملة، والتعريف بأوضاعها وبملفاتها المطلبية، ودعمها لتثبيت حقوقها في مختلف مؤسسات الإنتاج، حيزا كبيرا، بالتغطية الإعلامية لنضالاتها وبالتحقيقات(سامير، إيكوما، أمبروطيكس، ميلتيطيكس، أفريسبور، ميسطونغ، أوجيفا، فندق ميرامار ميريديان…)، وأحيانا حتى ببعض المساعدات النقدية والعينية على محدوديتها ورمزيتها، التي كان يبادر بها المكتب المحلي للمنظمة…
وحضرت أيضا مشاكل المجال في المدينة، من دور الصفيح، إلى مناطق إعادة الإسكان، وصولا إلى التجزئات السكنيــة الجديدة…كما حضــرت قضايا ذات صلـــة بقطاعات
حيوية كالتعليم…أو بقضايا الناس البسطاء العزل ومعاناتهم أمام جحيم المصالح الإدارية المختلفة(بوليس، محاكم، ضرائب ووكالات توزيع…) أو مع تجبر طغاة وفراعنة محليين صغار…
على أن مجموع تلك المتابعات، كما يقول المؤلف” يمثل اليوم، بعد المسافة، جزءا مهما من ذاكرة متعددة الأوجه:
ذاكرة مكان(المحمدية) وذاكرة زمان(عقدا الثمانينيات والتسعينيات)، وذاكرة تجربة شخصيـــة، قد يصلح للاستثمـار-خصوصا لو دعّم بذاكرات شخصية أخرى، متزامنة، لأعضاء آخرين في منظمة العمل، أو بذاكرات رفاق وأصدقاء من مواقع تنظيمات تقدمية ويسارية أخرى، قد يلقـــون نظـــرات أخرى، متقاطعــــة أو مغايــرة للأمــور-في عمل آخر أوسع وأكثر إحاطة وإفادة، وربما أيضا أكثر طموحا موضوعيا ومنهجيا(…) مما يمكن تصنيف عائده في دائرة نوع من “التاريخ الاجتماعي السياسي المحلي” المتعلق بالزمن القريب والمباشر، والذي نلاحظ تجددا ملفتا للاهتمام به، إما كشكل من أشكال الاستجابة والاندراج السلبي في العولمة، بالتسابق لرفع رايات نكوصية هوياتية صغرى هنا وهناك، إثنية أو مناطقية، أو لغوية أو حتى عائلية، وهو الغالب، وإما كشكل من أشكال مقاومة المخاطر الملازمة لتلك العولمة، وخاصة منها مخاطر الاقتلاع والمحو، أو الاستيعاب والتنميط الثقافيين، وهو نادر…”
الأستاذ مصطفى بوعزيز المؤرخ، والفاعل السياسي [الذي جمعه مع المؤلف نفس الموقع السياسي والتنظيمي داخل حركة اليسار الماركسي -اللينيني المغربية (مع حساب بعض التفاوت الجيليّ بينهما)، ويتقاسمان إضافة إلى التقدير، عدداً من الحساسيات والاهتمامات، حيث ينشطان معا في مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، وحيث سبق للمؤلف أن ترجـم وقــدّم -في أول عملِ ترجمةٍ له لكتاب كامل- واحدا من أولى أعماله المبكرة، وهو كتاب “اليسار المغربي الجديد…النشأة والمسار (1965-1979)، الصادر عن دار تينمل بمراكش في 1993، ويستعد اليوم لترجمة عمله الجديد والقيّم حول “دار المغرب” بفرنسا، الصادر في حلة أنيقة جدا شهر شتنبر 2022، عن دار “ريفنوف” Riveneuve بباريس، والذي يجد القارئ تقديما له في مكان آخر من هذا العدد]، الأستاذ بوعزيز أقول، خصّ هذه “الأوراق”، بتقديم هام امتد على مدى صفحات، تحت عنوان: “المثقف العضويّ” تضمن تأطيرا نقديا، تاريخيا واجتماعيا وسياسيا وإيديولوجيا، للبنية التي نبت فيها اليسار الجديد، ولعلاقاته المعقدة وغير المستقرة مع جيل “الوطنية” وثقافتها، ولأدوار “الانتلجانسيات” في التجارب التاريخية، وأدوار المثقفين ضمنها، وحال “انتلجانسياتنا”…قبل أن ينتقل للحديث عن ظروف لقائه المباشر، وتعرفه على كاتب “الأوراق” أول مرة، عندما قَدِم من فرنسا، في مهام تنظيمية، كمسؤول سياسي وتنظيمي مركزيّ، منها الاجتماع بأعضاء الخلية المركزية لمنظمة “23 مارس” التي كانت مشرفة على عمل هذه المنظمة في القطاع الطلابي بفاس. كان ذلك في السنوات الأخيرة من السبعينيات، عندما كان صاحب “الأوراق” مايزال طالبا بشعبة الفلسفة في كلية آداب ضهر المهراس.
وبخصوص محتوى الكتاب، يكتب الأستاذ مصطفى بوعزيز:” أما نصوص الأستاذ زكري فهي مؤطرة بالجدل التالي: ممارسة الفكر، وفكر الممارسة، مما يعكس بجلاء المسار الوعر لتوجه فكري ونضالي أصيل وهو يحاول الانتقال من التمثل التبسيطي للماركسية ومفاهيمها المؤسسة، إلى الإحاطة بتعقيدات الواقع، جون السقوط في التبسيط الآخر، المقابل، وهو الواقعية المفرطة، الاستسلامية التي تحوّل الأداة النظرية إلى مجرد آلة تصوير فوتوغرافية رديئة”.
ويضيف أن عددا من الأسئلة الحارقة حاضرة في الكتاب، منها مثلا: “أية مقاربة للمسألة الدينية، وأي تعامل منتج مع معتقدات الشعب؟ وأي تعريب أو تبييء للماركسية، كما صاغها روادها الكلاسيكيون، مع واقع كالواقع المغربيّ؟ وأية قاعدة اجتماعية للنضال الإصلاحي الاجتماعي الجذري؟ وأية إرادة للعمل الوحدويّ بين فصائل “السياق الاجتماعي الوطنيّ” لتطوير الفعل الجماهيري نحو التغيير الديمقراطي، تجنّبنا السقوط مجددا ضحايا لكوارث الهيمنة الخانقة، أو لمآسي القابلية “للتّمخزن” القاتلة؟….”
الكتاب يتضمن ملاحق أو ضميمات، كما سماها المؤلف، وهي وثائق من أرشيفه الخاص، من بينها عدد من البيانات والمراسلات والعرائض لقطاع الشغيلة التعليمية الديمقراطية بالمحمدية، وللجنة الوطنية لقطاع التعليم الأساسي والثانوي في منظمة العمل…كانت قد خاطبت بها الهيآتِ القياديةَ النقابية الوطنية، في موضوع “أزمـــة
العمل النقابي المحليّ” في ذلك الإبّان، وكلها إخبار، وطلب تدخل، وتنبيه لضرورة محاصرة مفاعيلها التخريبية قبل فوات الأوان…كما تتضمن توثيقا تفصيليا للخروقات الانتخابية التي شهدتها كل الانتخابات بالمدينة، محلية كانت أو برلمانية، ومواقف منظمة العمل إزاءها…
تلك هي “أوراق” الأستاذ زكري التي انتقى فيها منتخبات من إنتاجاته، قدّر أنها تستحق منه منحَها فرصةَ حياةٍ أخرى، وفرصة اطلاع جديد عليها، سواء لأولئك الذين عاشوا مباشرة غمار هذه التجربة في مواقعها المختلفة، من رفاق له في التنظيم وأصدقاء وعاطفين، أو من أصدقاء ورفاق له في شتى التنظيمات التقدمية الأخرى، السياسية والنقابية والجمعوية…فضلا عن المتتبعين من ساكنة المحمدية، وخاصة أجيالها الجديدة من الشباب، ومن عموم القراء.