إدريس الأندلسي
تعقدت أمور سياسة التربية و التعليم ببلادنا منذ سنين و خصوصا حين انساقت حكومات إلى التعاقد. دخلنا منذ سنين في مسلسل كذب مؤسساتي شارك فيه السياسي و النقابي و الأستاذ و الوزارة و كثير من التنسيقيات. و بقي على الهامش تلميذ أو تلميذة و أستاذة أو أستاذ و رب أسرة همه ضمان تعليم لفلذات كبده. من أخطأ الموعد مع الإصلاح و من جعل من نظام التعليم في بلدنا مجالا لحل مشكلة معقدة إسمها ” محاربة العطالة ” عبر فتح بوابة التربية والتعليم لكل متخرج من جامعاتنا. مهنة المعلم و الأستاذ لا يمكن أن تكون متاحة لكل من تخرج من تكوين جامعي. و تظل الرهينة في معركة لي الذراع هي الأسرة و يظل المستوى التعليمي المتراجع هو النتيجة و يستمر الصراع من أجل حل مشاكل مادية مشروعة و تسكين وظيفي و صراعات جانبية و أخرى سياساوية عوامل إدخال التعليم إلى مستنقع كبير. صحيح أن معضلة التعليم عميقة و لكن كرامة الأستاذ تتطلب الكثير من العدالة في توزيع موارد الدولة. كيف سيتم الوفاء للمهنة و الذي ” كاد أن يكون رسولا” يعيش على الكفاف و الكثير من الهشاشة.
في البدء وجب التذكير و التأكيد على أن مهنة التعليم أساسية في كل مجتمع أراد أن يدخل معركة النمو و التغيير و الولوج إلى درجة التحضر و التنمية الحقيقية و الإقتصاد الصاعد. و ثانيا، وجب التأكيد على أن مهنة التدريس و التعليم ليست مهنة من لا مهنة له. التعليم و التربية مهمة لها مقوماتها و متطلباتها و كثير من المراحل التي يجب تجاوزها بمهنية و تكوين و تداريب و اختبارات. تم تخصيص حيز موضوعاتي و زمني لإشكالية التعليم و التربية في لجنة النموذج التنموي الجديد و انكب المجلس الأعلى للتعليم و أشياء أخرى مكلفة ماليا، على الموضوع دون أثر يذكر. تحول هذا المجلس إلى نوع من التباري حول قضايا هامشية بل و صراعات بين ” فاعلين” لا فعل لهم في الواقع. و يستمر العمل فيه بصفة رسمية و بدون مخرجات واقعية ذات أثر على تدبير قطاع حيوي يهم الآلاف من المعلمين و الملايين من المتعلمين.
أصبحت القضية التعليمية و التربوية ملفا، مجرد ملف، يستدعى للتفلسف في شأنه خبراء تعودوا على كتابة تقارير كبيرة الحجم متواضعة المضمون و مكلفة ماليا و غير ذات تأثير على قطاع حيوي . و هكذا توالى على كراسي المجلس الأعلى للتعليم برلمانيون و نقابيون و وزراء سابقون بلغوا من الكبر عتيا. و النتيجة كلام على الهامش تنظيميا و تربويا و فوضى في التعامل مع من يؤطرون العملية التربوية. بالأمس كان مفتش التعليم يسهر على تأطير عدد من المعلمين و الأساتذة و كانت الإختبارات المهنية الحقيقية معيارا للترقي في السلم و الدرجة. دخلت شبكات التأثير الحزبي و النقابي و العائلي و السلطوي لتكسر هيبة التنظيم التعليمي التربوي. و هذا واقع يعرفه من اخلصوا لمهنة مقدسة هي التعليم و كثير منهم كان ضحية لظلم واضح وضوح النهار. تمت ترقية من لم يشتغل و كثير الغياب و أصحاب الشهادات المرضية طويلة الأمد و تم تجميد من قام بدوره طوال السنوات على أحسن وجه. و لكن هذا الأخير لم يكن عضو نقابة أو حزب أو تنسيقية. و أستمر تلاعب بعض الأساتذة بمستقبل التلاميذ. من جهة يؤججون الصراعات و يدعون إلى إنجاح الاضرابات و من جهة أخرى يستغلون فترة الاضرابات لزيادة دخلهم عبر المدارس الخاصة و الدروس الخصوصية. الآباء يعرفون جيدا من يتخلف عن أداء الواجب المهني لأغراض انتهازية و يعرفون الأستاذ الذي يسكنه هم أداء مهمته التربوية في أحسن الظروف. و هذا الموضوع تتغاضى عن طرحه النقابات و التنسيقيات لأنه محرج سياسيا و اجتماعيا و مدمر لمسار تلميذ و أسرته.
و ابتكرت حكومات متتالية حيلة التعاقد و ربطها بالأكاديميات و افراغها من كل الشروط الضامنة لاستقرار العملية التربوية. العاقل يرفض التعاقد مثلما يرفض ولوج أي أحد لمهنة التعليم دون الخضوع للامتحان. و لكن الوضع الإجتماعي و وقعه على ممارسة السياسة أوقع بعض المسؤولين في غلطة خلق اطارين لمهنة واحدة تمارس في مؤسسة واحدة هي المدرسة أو الإعدادية أو الثانوية التأهيلية. و تم فرض التوظيف عبر الاكاديميات دون أن يخفف عدم الطمأنينة إلى نفسية الأستاذ. المتخصصون، واقصد بهذا التوصيف من خبروا الميدان من جميع أبوابه و جوانبه، يعرفون أن المعلم أو الأستاذ ليس مجرد رقم و لكنه كائن متعدد التجارب و التواجد و كثير المعاناة. أغلبية من يعانون دخلوا إلى جامعات كانت بدورها ضحية غياب التأطير و المتابعة و التقييم. هذا الكائن لا يتملك كل الوسائل لممارسة العملية التعليمية على أحسن وجه. و الأمر صعب و يتطلب الكثير من الجهد في مجال التكوين المستمر. الأمور تزداد تعقيدا حين يتعلق الأمر بالعالم القروي و بالأماكن البعيدة في هوامش المدن و في المرتفعات.
إشكالية التعليم متعددة الأوجه و ضرورة تعميمه على كافة ربوع الوطن واجب وطني كبير. الكثير من المتابعين للموضوع يظنون أن الأمر مرتبط بالأجور و التعويضات. الأمر أكبر من ذلك بكثير. تعميم التعليم ملف كبير يحتاج إلى سياسة تضم جهود عدة وزارات. تعيين معلمة في مدرسة ابتدائية أو في اعدادية بالعالم القروي قد يبدو عملية عادية مع الأسف. تدبير الخريطة المدرسية يحتاج إلى جهد لتهيئ ظروف ممارسة التعليم مناسبة للمكان و للبيئة. معلمات و معلمين كانوا مضطرين إلى طلب العون و الحماية من مجالس أو جمعيات لأداء دورهم التربوي.
أما أداء الدور التعليمي في القرى و في محيط المدن فيتطلب الكثير من الدعم المباشر. شاءت ظروفي المهنية أن أقف على حالات نفسية لمعلمات و معلمين يدرسون في قسم يضم ثلاث أو أربع مستويات. دخلت إلى مجموعة من المدارس التي لا وجود فيها للكتب و الدفاتر و الأقلام. وجدت معلمات و معلمين يحاربون الزمن و الواقع من أجل فعل يساهم في التعليم. العملية التربوية التعليمية تحتاج إلى كثير من الصبر و المعرفة بالواقع. الخبراء و التقنيون و أصحاب الجاه التعليمي يوجدون في الرباط و يعتبرون غيرهم مجرد كائنات لا تفهم قراءة المذكرات التي تغير البرامج و المناهج المرتبطة بالتلقين و بتقييم مستوى تحصيل المتلقي للبرنامج و للدروس.
حين استمع للمختصين أدرك أن من يسيرون هذا القطاع يحتاجون إلى الغوص في مكنوناته. سبق لي أن قضيت بعض الشهور في افتحاص عمليات أكبر الاكاديميات التعليمية بالمغرب قبل سنين، و تأكدت أن نظام الاكاديميات نقل نقلا حرفيا عن فرنسا دون إدراك لتاريخ هذه المؤسسات التي ولدت في إطار تاريخي بعيد عن واقعنا. حين عاينت عن قرب تدبير هذه الاكاديميات تبين لي أن وزارة التعليم أو التربية أو التكوين تخلصت من كل المهام التربوية لتحول الاكاديميات إلى مؤسسات عمومية. و أصبح دور الرقابة المؤسساتية يركز على صرف الأموال و تمويل الامتحانات الجهوية و الوطنية و متابعة أوراش بناء المدارس فقط لا غير.
أصبح مندوب وزارة التربية والتعليم الخاضع للأكاديمية موظف يدبر ميزانية و يتقن ضبط قواعد التسيير التربوي و الإداري و التمكن من تقديم الحساب ماليا و اداريا. و في هذا الجو البيروقراطي تحملت الوزارة تدبير ملفين كبيرين. الأول تربوي و كل ما يلزمه من كتب مدرسية و تأطير و تفتيش و توجيه، و الثاني. و هو الأهم إعطاء مدلول عملي لتنزيل الخريطة المدرسية. انشغلت الوزارة بأمور ليست من اختصاصها لتنسى أنها في البدء مؤسسة سياسية للتربية و التعليم. و زاد من حدة هذا الموضوع تنافس بين وزراء للتعليم و وزراء للتجهيز حول تدبير ميزانيات بناء و تجهيز المؤسسات التعليمية. و كانت النتيجة مضيعة للزمن التربوي و تسابق من أجل استهلاك اعتمادات الميزانية التي تواصل كبر حجمها خلال السنين العشر الأخيرة. و قد وجدت كثيرا من الحقيقة في ما قاله الوزير السابق بلمختار عن كون الوزارتين المتحكمتين في القطاع هما المالية و الداخلية و ليس وزارة التعليم
في زمن سابق دفع الراحل الحسن الثاني بكل المسؤولين السياسيين و النقابات الى المشاركة في مناظرات بإفران و ليشركهم في إتخاذ القرار و المساهمة في تنزيله. لكن المسألة التعليمية خضعت للتسييس المفرط و للإفساد و وصل الأمر إلى حد تحكم بعض النقابات في حركة الانتقالات و الحصول على أكبر عدد من المتفرغين. و التفرغ غالبا ما يصبح ريعا يستفيد منه المقربون من الحزب و النقابة. وهناك حالات لمعلمات متزوجات من مسؤول حزبي أو نقابي تفرغن ليس للعمل النقابي و لكن لأسرهن و ربما لتجارتهن. هذا لا يعفي التنسيقيات التي يشهد بعضها ممارسات قريبة من التحكم البيروقراطي الفوضوي في عدد كبير من الأساتذة. و كثير من التنسيقيات يديرها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نقابيون سابقون أو حاليون.
بلادنا تشهد حاليا فترة عصيبة تحتاج إلى جرأة سياسية تتسم بالشجاعة و الحكمة. نعم لتحسين أوضاع الأستاذ و لكن ألف نعم لإخضاع ولوج مهنة التعليم لمقاييس صارمة و تأطيرها بمناهج تكوينية مستمرة. ليس كل مجاز من الجامعة قادرا على القيام بمتطلبات هذه المهنة. و في الأخير وجب عدم الاستخفاف بقرار الإضراب و آثاره على التلميذ و على الأستاذ. قرار الإضراب مكلف للدولة و يجب أن يكون مكلفا لمن قرر التوقف عن العمل. و هذا الأمر يجب أن لا يتم النظر إليه بانتهازية. محاسبة الجميع في كل القطاعات مدخل إلى بناء المجتمع الديمقراطي و محاربة كل أشكال الريع بما فيها ذلك الذي يضرب عن العمل ليتسلل إلى المدرسة الخصوصية ” بلا حياء”.