المبارك الگنوني
مـلاحـظـة : ألتمس من أحفاد الولي الصالح ” سيدي بوعمرو”،وخاصة المثقف الكبير،الصديق سيدي محمد البوعمري أن ينقح ما يمكن تنقيحه،ويْغنيَ المقال المتواضع بإضافات جديدة لم تتطرق لها المراجع التي اعتمدت عليها،وشكرا.
اعتمدت في هذه التدوينة على المراجع التالية : العباس بن إبراهيم السملالي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، محمد المهدي الفاسي، ممتع الأسماع بالجزولي والتباع وما لهما من الأتباع، ابن عسكر، دوحة الناشر تحقيق محمد حجي، حسن جلاب، أضواء على الزاوية البوعمرية، شمس المعرفة .
هو أبو عمرو بن أحمد الأمين بن قاسم القسطلي المراكشي، وفي ممتع الأسماع لمحمد المهدي الفاسي أنه من ذرية الشاعر ابن دراج القسطلي. ولد أبو عمرو سنة 912هـ بحي قاعة بناهض، وكان والده “حرّارا” من أعيان مراكش، وأحد أتباع الشيخ عبد العزيز التباع، فقد وهب السيد الوالد لعبد العزيز التباع الأرض التي بني عليها زاويته بحي النجارين، فدعا له أن يُرزق ولدا صالحا، فحملت أم أبي عمروا استجابة لدعوة هذا الفاضل، وإنما الأعمال بالنيات. وحمل اثر ولادته إلى الشيخ لمباركته، فسأل عن اسمه، وقيل له: أبو عمرو فقال: نعمره ونثمره ثلاث مرات.
بحي رياض العروس بمحروسة مراكش، في مكان وسط بين ضريح الجزولي وضريح السيد الفاضل عبد العزيز التباع أحد الرجال السبعة الفضلاء، توجد الزاوية البوعمرية التي تنسب للشيخ أبي عمرو القسطلي الذي يعتبر من أشهر الصوفية بمدينة مراكش.
كتب الكثير عن الحركة العلمية بالزاوية الدلائية ودورها الفكري والتربوي في تاريخ المغرب، وإذا عرفنا أن مؤسس هذه الزاوية المباركة الشيخ أبو بكر الدلائي هو من أشهر تلاميذ أبي عمر القسطلي أدركنا قيمة هذا الأخير في مسار ازدهار العلم والعمران بالمغرب .
ويتساءل الباحثون لماذا لم تستمر هذه العلاقة، فقد كبر سن أبي عمرو دون أن يتعلم القراءة والكتابة، فيقوم ذلك على التحدي لديه، فقد نعت له صبي حرفي الراء والزاي فلم يعرفهما قال: وحقرت نفسي وصرت مجتهدا في القراءة نحوا من خمسة أعوام في تعمير الأوقات بالقراءة والأوراد، حتى استفدت وأفدت، وجمعه بين القراءة والأوراد دليل على كبر سنه، ويؤكد هذا ما كان يقوله عند شيخه الفاضل السيد عبد الكريم الفلاح، تلميذ التباع، في المجالس، أترك لكم الخلافة في رجل أمي لا يفرق بين الراء والزاي، وكان يجب إذا طلب منه أن يكتب نحن لا نكتب ولا نحسب، وهذه الإشارات تفيد انصرافه إلى علم الباطن أكثر من علم الظاهر، ففي المصادر ذكر لغرابة سلوكه عن أبناء جنسه، إذ كان منقطعا في حضرة مولاه حتى دعي مجنونا، وانفرد بذلك نحوا من سبعة أعوام أو يزيد حتى كان من غيبته وذهابه في الله لا يفرق بين أولاده وأولاد غيره، واختلفت عليه أقوال العلماء والفقراء، بتعبير الفقيه السملالي في الإعلام.
كان للشيخ القسطلي حظ محترم من علم الظاهر، وكان يسأل عن مسائل متصلة به، فقد عكف على قراءة مختصر الشيخ خليل والنحو ما يزيد على أربعة أعوام، وكان الدافع إلى ذلك أن رجلا سأله عن مسألة في الفرائض فعجز عن الجواب، قال: فاحتقرت نفسي، وصفرت في عيني همتي وانقطعت للقراءة ببيتي، وصار أعجوبة في درسه وفهمه له. وكان مداوما على حضور مجالس العلماء، كثير السؤال لهم حتى إن أحدا منهم قال ذات يوم: يا سيدي هذه المسائل التي تسألني عنها أقل من يبحث اليوم عليها، ويعتبر عبد الكريم الفلاح –تلميذ عبد العزيز التباع ودفين ضريح الإمام القاضي عياض بباب أيلان- أهم شيوخ أبي عمرو في الطريقة، فقد كان ملازما له ويشيع بين الناس أنه خليفته، كأن يقول: نهايتنا في بداية سيدي أبي عمرو. وسنده في الطريقة تباعي جزولي شاذلي، فقد أخذ أبو عمر القسطلي عن عبد الكريم الفلاح عن عبد العزيز التباع عن محمد بن سليمان الجزولي. ويذكر له الحلفاوي في شمس المعرفة سندا آخر ينتهي إلى الإمام زروق: فقد أخذ أبو عمر القسطلي عن عبد الكريم الفلاح عن عبد العزيز التباع عن السهلي عن الإمام أحمد زروق، والمعروف أن السهلي لزم الجزولي أكثر من لزومه لزروق، وهو شيخه الأول في الطريقة.
فتح أبو عمرو زاويته بحومة حمام الذهب بحي، زاوية الحضر حوالي سنة 952هـ، وذلك لتلاوة الأوراد ودراسة العلم وإطعام المريدين والمحتاجين.. وكانت الزاوية البوعمرية تعج بالمريدين والزوار وذلك لقربها من جامع جامعة ابن يوسف المبارك الذي يقصده طلبة العلم، ولما اشتهرت به تلك الجامعة من مستوى علمي رفيع، ولما كانت تقدمه من أصناف الأطعمة والمأكولات اشتهرت بها، لذلك قيل بان عدد المتخرجين على أبي عمرو بلغ حوالي سبعة عشر ألف مريد .
ويفيدنا حسن جلاب في كتابه أضواء على الزاوية البوعمرية؛ بأنه من الكتب التي كانت تدرس بالزاوية البوعمرية : الحكم العطائية وشرح محمد بن عباد لها، وكان أبو عمرو، يحللها ويعلق عليها بما يذهل العقول، كما كان ابنه الكامل معجبا بالكتاب يثني على المؤلف، والشارح يعلق على آرائهما، ومختصر الشيخ خليل، والحقائق لزروق، وتنوير ابن عطاء الله، ورائية الشريشي، وشرح محمد الدقاق عليها، ويذكر الحلفاوي في شمس المعرفة أن هذه الكتب كانت تدرس في الصباح، أما بعد الظهر فيخصص لتلاوة القرآن، وبعد العصر تتلى نبذ، من الشفا لعياض-وما أدراك ما الشفا-، ومن كلام ابن عباد على الحِكم. أما أوراد الزاوية فكانت موزعة على مختلف أوقات النهار: وكان ورد الصبح يشمل على قراءة حزب الفلاح، وحزب البحر، ومجموعة من التصليات، ووظيفة النجا لزروق، وسورة يس، وورد الظهر يشتمل على حزب الفلاح والهيللة والشهادة ومجموعة من التصليات، وورد المغرب يشمل حزب الفلاح وفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص، والمعوذتين، وآية الكرسي، ومجموعة من التصليات والدعوات، وفي بعض الليالي تردد أذكار الششتري، وليلة الاثنين والجمعة تتلى البردة . ونلاحظ أثر محمد بن سليمان الجزولي وعبد الكريم الفلاح على الطريقة البوعمرية في اعتماد أحزاب الشاذلي، وفي الإكثار من التصليات والدعوات التي تقام عليها الطريقة الجزولية، وخاصة دلائل الخيرات، كما يبدو أثر السند الثاني للطريقة في اعتماد وظيفة زروق النجا لكل من إلى الله التجا ..
إن من أشهر الصوفية الذين تخرجوا على يد أبي عمرو القسطلي، وبعضهم أسسوا زوايا بإشارة منه سيرا على نهج المدرسة الجزولية في بث الزوايا والمرافق العمرانية في مختلف مناطق البلاد : منهم أبو بكر المجاطي الدلائي مؤسس الزاوية البكرية الدلائية بأمر منه، وأبو عبد الله محمد بن المبارك الزعري التستاوتي الذي كان منقطعا بزاوية أبي عمرو بمراكش، وعاد إلى بلاده لتأسيس زاوية بها، والحسن المداح الزعري لازم الشيخ أزيد من ثلاثين سنة، وعنه روي الزروالي كثيرا من أخباره في شمس القلوب، وفي تحفة أهل الصديقية للمهدي الفاسي، ذكر لمجموعة كبيرة من مريدي أبي عمرو وأتباعه.
ويكاد يتوقف هذا النشاط العلمي والإشعاع الأدبي بعد الشيخ الثالث من شيوخ الزاوية محمد الكبير بن أبي عمرو، فلا يرد في المصادر والوثائق ما يفيد استمرار هذه الحركة العلمية الأدبية، بينما تستمر الزاوية في أداء باقي الوظائف التربوية والاجتماعية، وقد مكنت هذه الوثائق من وضع سلسلة متصلة الأسماء شيوخ الزاوية ومقدميها منذ أبي عمرو إلى اليوم، وهذا لم يمنع من ظهور بعض العلماء والشعراء من البوعمريين نذكر على سبيل المثال: أحمد ابن مسعود البوعمري الذي كانت له صحبة بالعالم أبي الحسن اليوسي، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز البوعمري، والشاعر محمد بن محمد البوعمري صاحب قصائد ملحونة عديدة .
أما الأدوار الاجتماعية للزاوية البوعمرية فتمثلت أساسا في إطعام الطعام عملا بالقاعدة المغربية المشهورة: رأس التوفيق والعبادة إطعام الطعام، وسيرا على الحكمة القادرية: “تأملت في المكرمات كلها فلم أجد أفضل من إطعام الطعام”، وحتى تتمكن الزوايا بشكل عام من القيام بذلك على أحسن وجه كان شيوخها يهتمون بشق السواقي وحفر الآبار، واستصلاح الأراضي ضمن مشروع عمراني إنساني كوني بفضل من الله.. وتتضاعف أهمية هذا الدور خلال فترات المجاعة والأوبئة ومن الذين اهتموا بميدان الفلاحة والري: عبد العزيز التباع، إشرافه على بستان شيخه السهلي، الغزواني وتلامذته من بعده عبد الله بن حسين، وعبد الله بن ساسي، وأبو عبيد الشرقي بأبي الجعد، ورحال الكوش، وقد سمي عبد الكريم -شيخ صاحبنا أبي عمرو- بالفلاح لاهتمامه بالفلاحة: إحياء الأراضي واستصلاحها، وشق السواقي، وحفر العيون والآبار وغرس الأشجار. وقد نقل الحلفاوي في شمس المعرفة كلام عبد الكريم الفلاح في الموضوع، وعلق عليه بقوله، من كلامه ما شهدنا صدقه بعد ستين سنة كقوله: سأغرس في موضع كل سدرة شجرة.. مكنه ذلك من إطعام الوافدين على زاويته بباب أيلان وتقديم ما يحتاجونه من أصناف اللحوم، والخضر والفواكه، إن هذا يؤكد فكرة طالما أثرتها حول احتراف كثير من صوفية المدرسة الجزولية للفلاحة وشق السواقي وحفر الآبار، بل واعتبار ذلك جزءا من التربية الصوفية، وهذه مسألة لها علاقة كبيرة بازدهار العمران في كثير من مناطق المغرب بما فيها المناطق النائية ..
أما الدور السياسي للزاوية فتجلى أساسا في مساندة الدولة السعدية ضدا على الدولة الوطاسية التي كان القادريون يساندونها، ومع ذلك لم يخل العصر من امتحان أهل الزوايا. لقد كان أبو عمرو يصرح بأنه القطب، والسلطان وصاحب الوقت.وكان القصر الملكي يقدره ويحترمه، فمع وجود صوفية غيره لجأت إليه الحرة مسعودة الوزكيتية والدة السلطان أحمد المنصور الذهبي، وبانية مسجد باب دكالة الشهير، عندما خرج ابنها المنصور إلى فاس لإخماد ثورة بعض أقاربه، وزاد من هولها وقوع الزلزال بالمدينة (سنة 995 هـ) فطمأنها من روعها وأعادها إلى قصرها.. هكذا هي ذرية الشيخ أبي عمرو القسطلي، وهذه هي أخلاقهم وهممهم، رحمهم الله جميعا ..
توفي الشيخ أبو عمرو القسطلي (سنة 974 هـ)، ودفن بزاويته برياض العروس بمحروسة مراكش، رحمه الله وجازاه عن مراكش والمغرب خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه ..