” أطمح أن أحرز لقب مطلقة ” كان جوابا انطلق من فم فتاة في مستهل عقدها الثالث متزوجة ولها طفلان، وتلقفته أذنايا بكثير من الاستغراب والقلق، مع أن تلك الفتاة هي بنت صاحبي الذي استنجد بي من أجل السعي إلى رأب الصدع بينها وبين زوجها، وهي التي كانت تحترمني كثيرا، وتناديني بلقب عمي، وتهش كلما رأتني، وتتحاور معي في أمور الحياة، وتعجبني ببعض أفكارها ومواقفها، فتاة معتدلة ومومنة ومتعلمة، ومسالمة، طموحة، وداعية إلى الخير، وتبدو مصممة على النجاح، ومقارعة الصعاب …….
اليوم اختفت كل تلك الأمور فجأة، وأضحت تلك الفتاة مُقَضَّبة، وعبوسة، وكارهة للحياة، ترى في وجهها كل أنواع المعاناة والمكر والخداع، واللامبالاة، وعدم الإطمئنان، وإصرارا على التخريب والهدم .
هكذا بدا لي المشهد في بدايته، وصُدِمت كثيرا فيما رأيت وسمعت، وتركتها أياما حتى هدأت، ففتحت معها الحديث من جديد، وباحت لي بالأسباب التي دعتها إلى الإصرار على الطلاق بصفة ليس فيها شيء من أمل الرجوع، وبادرتني بإلقاء مبررات وجيهة ومقبولة……
هذه الحادثة دفعتني إلى استرجاع مجموعة من الحكايات التي قصت علي، أو سمعتها من أفواه أصحابها مباشرة، وكلها تنبيء بشيء واحد هو خراب الأسرة المغربية في أهم ركائزها التي كانت تبنى عليها مثل الحب والوئام والاطمئنان والصبر والتحمل، والإصرار على النجاح، والإقبال على الحياة. إن الجيل الجديد من مواليد التسعينات إلى الآن متفشية فيه ظواهر الصراع، والخصام، والحدة في التعامل، ثم الطلاق في النهاية مما جعلني في حيرة دائمة، وتفكير عميق في دوافع هذه الأحوال الكارثية، الهادمة لبنيان الأسرة المغربية المعاصرة، والناهشة لأواصر التعايش والتساكن الواجب في كل علاقة زوجية ناجحة .
الجيل المذكور تلقى تربية ناقصة، لم يُعَر فيها الاهتمام إلا للأمور المادية، واسْتُبْعِدت منها كل قيم الأخلاق، والتربية على كيفية العيش السليم، وكيفية بناء النجاح، فأصبح جيلنا معتدا بنفسه أكثر من اللازم، قابلا على التمتع بطريقة شَرِهَة، ليس له أية صلة بالحياة اللهم إلا ما تعلق منها بحب الذات، والانغماس في متطلباتها بكيفية مبالغ فيها، وانعدام فوائد الحوار، وقبول الآخر، والارتقاء إلى تملك أساليب الحياة الإيجابية .
هذا عامل أولي جعل معظم الشباب من الذكور والإناث لا يومن إلا بنفسه بأشد ما يكون الإيمان الذي يتحول إلى نرجسية وسادية ضارة بالجميع ، تضاف إليه عوامل أخرى ، سأرتبها لتيسير قراءتها وفهمها على النسق التالي :
1 – عدم وضوح المشاعر العاطفية عند الجيل الجديد بمقدار يؤهله للعيش بمعنى القدرة والرغبة وحب التعايش المبني على صحيح التصور ، وحرية الاختيار ، والإقبال على الحياة بتجربة ناضجة تتبين حدود الربح والخسران ، فأوجه علائق الجيل الجديد بزمانه لا تتعدى الظاهر من الأشياء القائمة على الاستهلاك المادي المحض ، المقرون بعادة التخلص من عناصر الحياة فور الاستفادة منها ، وحصول لذاتها ومنافعها ، وبالتالي انتفاء صلاحية بقائها….فتحول مفهوم الزواج في عرف شبابنا وشاباتنا إلى سلعة محدودة في التاريخ والوجود .
هكذايؤمنان به في البداية ، ثم يبدأ صراع القيادة والحرص على الاستفادة الذاتية الصرفة ، فيسعى كل منهما بمقايضة الآخر بما يحتاجه من معاني الزواج ، فيصبح بيت الزوجية عبارة عن مقاولة أو شركة قائمة على سوء النية ، والقصد في إذاية الشريك ، وهضم حقوقه ، وبث الرعب في مباهج الزواج بصفة عامة ، والتسابق المحموم في مدار مظلم ، يسعى كل طرف فيه لقهر الآخر ، والتغلب عليه ، وكأننا في حلبة النزال بين خصوم وأعداء للأسف الشديد .
2 – تحول قيم الزواج وأسسه ، وكثير من المظاهر الدالة عليه إلى كيانات جوفاء وخاوية من مستلزمات العمق الضامن للبناء ، مع التصميم على البقاء والاستمرار ، والصبر على ظروف العيش ، والحصول في النهاية على النجاح ، فمفهوم الحب والاستقرار النفسي والعاطفي ليس لها وجود في ذاكرة الأجيال الجديدة ، وحتى الجنس لم تعد له تلك المناعة الصلبة التي كانت تقوي روابط الزواج ، وتجعله في منأى عن التقلبات والصدامات الحاصلة ، فأغلبية الجيل الجديد له ارتواء وزيادة من الجنس ، بل له نفور مبكر منه لم يكن يصيب الأجيال المتقدمة عليه إلا بعد أن تبلغ من العمر عِتِيا ، شبابنا وشاباتنا شاخوا في مجال الجنس الحرام قبل الأوان بسبب توفره ببشاعة ، وانعدام القيم الأخلاقية في تحديد معاني الحياة ، وغياب تقاليد التربية الصالحة عن مسرح النشء منذ الخطوات الأولى من العمر ، وعندما تجد من يعتبر الجنس الحلال فاعلم انه صاحب تربية حسنة ، وقصد شريف ، أو أنه يجعله وسيلة خبيثة للوصول إلى أهدافه في التملك والسيطرة والمقايضة على غرار حكمة المتنبي رحمه الله :
والظلمُ مِن شِيَمِ النفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ °°° ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لاَ يَظْلِمُ
3 – الخفة والتسرع في اتخاذ قرار هام في الحياة مثل الزواح من طرف الذكور والإناث ، فقد قلت عن الزواج إنه أصبح مظهرا بلا عمق ولا غاية…. وبهذا المفهوم ذهب كثير من الناس إليه ، فالفتاة قد تقع تحت ضغوط أسرتها للتخلص منها قبل الأوان ، والانفلات من أقوال المجتمع وتقاليده المضرة بكل فتاة تأخرت عن الزواج ، والتسرع في إشاعة أجواء كاذبة توحي بالفرح والانشراح ، وهي غير ذلك في حقائقها ، فيقع الشرخ باكرا ، وتظهر علامات التعاسة في كل الجوانب ، وعندما يقع الطلاق يصبح من أمر القدر ، ونَفْهَم ونُفَهَّم ونُفَهِّم أنه من معطيات المجتمع التي يجب التعايش معها بقبول أضحى في وقتنا مسلما به وبمظاهره المنتشرة داخل أكثرية أسرنا الحالية .
أسمع عندما أسأل فتاة مصرة على الطلاق : كيف قَبِلت فكرة الزواج في البداية ؟ أسمع هذه العبارة المكرورة : ( زواج الوالدين ) مع أن كل ما يحيط بحياتنا من دين وقانون وأوضاع اجتماعية ترفض أن يؤسس الزواج على مثل هذا الادعاء الباطل والخاطئ في وقتنا الحالي، فَتَعِنُّ لي صحة الاستنتاج السابق مما أكرر الإشارة إليه وألخصه في الجمل التالية :
الزواج تحول إلى مظهر بلا عمق ولا قصد .
الأسرة تتسرع في التخلص من البنت خاصة لمراعاة تقاليد المجتمع .
4 – الندم والملل المبكران : أُصْعَق عندما أرى طالبا للطلاق بعد شهور وجيزة من الزواج، وترتسم في ذهني كل الأسباب التي ذكرتها سابقا عن الفشل، وعندما أرى النسبة العالية من الطلاق تقع في فئة الجيل الجديد أجزم يقينا بأن تلك الأوصاف السابقة هي المتحكمة في معاني الزواج المعاصرة .
كثير من الشبان يقبلون على الزواج بلا وعي، ولا إدراك، ويتوهمون أن الزواج هو أن يتملكوا امرأة تقيم في المنزل، تقوم بكل الأعباء، ولا يبالي هو بمتطلبات الزواج في شخصه وسلوكه، ومقدار الحقوق والواجبات المتبادلة داخل البيت وخارجه، فيجعل من نفسه ملكا منزها عن كل النواقص، لا يقبل النقاش، ولا الحوار، كل كلامه أوامر، وكل ما يصدر عنه أفعال يجب أن يطاع فيها، وكذلك الشابة تتعامل مع زوجها وهي تتقمص دور أمها أو امرأة من عائلتها ، تجسد لها الظلم، وتوقفها على معاني الهضم، وسوء المعاملة، وتأخذ كذلك بنصيب مؤثر من آثار ما قرأته وشاهدته في وسائل الإعلام والتواصل، وهي تمني النفس الحانقة بمشاهده وبشخوصه، وببنية الانتقام المنتشرة فيه، فتتسلح بالدعوة المعوجة إلى التغيير والحرية، والتخلص من قيود الرجل والزواج…… وتنطلق في تحد متصاعد لكل تلك الأوضاع المسيئة في نظرها، وتتخذ من المكابرة والعناد، ومناصرة القوانين المعاصرة لها للوصول إلى تلك الغايات السلبية، وهي غير واعية بالأفيد لها، وبما ستُنهَش به من طرف المجتمع عندما تتخلص من ربقة الزواج .
وقد أضحى الشق المادي من الحياة مِعْوَلَ هدم وتخريب لمجموعة من الأسر، بالرغم من أن قوانين الزواح قد نظمته تنظيما محكما، بل ربما المجتمع برمته أصبح يرحب به في تعاقدات الزواج ومنذ البداية، وبالرغم أيضا من يسار الوقت الحالي مقارنة بما سبق، ومع ذلك نلاحظ النيات المشتة، والمواقف السلبية تجعله في مقدمات أسباب التخاصم ووقوع الشقاق .
تكلمت على هذا الموضوع بكل ما أوحى به إلي لحد الآن، ولم أذكر الآفة الكبيرة التي يسببها الطلاق المتفشي في أوصال الأجيال الجديدة، أَلاَ وهي مصير الأولاد وهم لا زالوا أطفالا، يشاهدون عراكا متواصلا في البيت، ويحفظون كيف يخاطب الزوج زوجته، وكيف تخاطب الزوجة زوجها، ويسمعون الصَّيَحَات والكلام النابي، والمواجهة بالأطراف……ثم بعد ذلك يحاولون فهم ما معنى الطلاق، ويشبون تحت مراراته، ويتأثرون بكوارثه، فكيف نطلب من هؤلاء الصبية أن يومنوا بالحياة، ويقبلون عليها بعشق، ونطالبهم بضرورة مراعاة الآخر في وجوده ومشاعره، وبالحرص على تحقيق كل جميل، والدعوة إلى الحق والعدل والمساواة؟
سؤال عريض ستكون له آثاره المدمرة على كل جوانب المجتمع والحياة، خاصة وأن الجيل الجديد في معظمه وَلُود…..فكيف سيكون غدنا وغد مجتمعنا مع كل ما نزرع فيه الآن من سلبيات ؟ ! .
لا أدري ولكن أتمنى أن تُستدْرَك الأمور حتى لا نقع جميعنا فى هوة ليس لها قرار، ولا يُؤمل منها رجوع ممكن لا قدر الله .
د مولاي على الخاميري / مراكش