تشكل اللحظة الراهنة فرصة أجد نفسي فيها مجبرا على الإعتراف ، أنني مدين لمرحلة من عمري قيدتها الجغرافية وبعد المسافة وظروف العمل وصعوبة التنقل حيث ساهمت في بناء شخصيتي من خلال كل التجارب والمحطات .الحصار بقدرما يضيق عليك من مساحة التحرك فهو يدفعك حتما إلى رفع التحدي والتحليق بأجنحة الإرادة فوق كل أسواره . إنه يدفع خيالك ليسع كل الأمكنة دون تأشيرة مرور ولا جواز سفر ، ثوقك دائما للحرية يجعلك محلقا في سماء الغربة وأنت تأخذ قلمك وكراستك المرصعة بكل التلاوين كالمعتاد وتجعل منها مجالا و مضمارا تصفي فيه كثيرا من القضايا. لا تذهبوا بفكركم بعيدا فالفترة ليست حصارا بمعناه الحقيقي : متاريس وحواجز وتدقيق هويات ، إنه فضاء مفتوح على مصراعيه لكن على الفراغ يشبه لحد بعيد حظر التجول. ومن أغرب ماعاينت بالمنطقة أن أوقات العمل معلومة وبينها فترات يعلوها البياض لدرجة تسمع فيها خرير مياه الوادي البعيد وتغريدات منفلتة هنا وهناك لطيور شاردة أو نعيق غراب يبحث عن فريسة . لاشيء يتحرك في هذا الأفق الممتد. السكون سيد الموقف. في غياب كل مقومات الحياة من كهرباء وهاتف ثابث وماء شروب في الأنبوب، البئر الوحيدة المتواجدة في قلب الدوار بالممر الرئيسي لها أعراف يجب إحترامها والإنضباط إليها، فلا مكان لارتياده في كل وقت وحين. الدكان الوحيد المتواجد بالقرية تحلق ببابه عصابة من الفضوليين يتداولون في كل شيء ، لايوفر سوى سكر وشاي وبعض مواد تنظيف وأكياس من الحبوب وبطاريات وعلب من السردين وعود الثقاب وقطع من الشمع للإضاءة وقنينات مشروب غازي .
كثير ممن زاروا مكان إقامتي في بلدة العمل وهم قادمون من مدن كبيرة بها جلبة وصخب وازدحام وجدوا ضالتهم في هدوء المكان ، طبيعته لاتخلو من جمال أخاذ يسحر القلوب قبل العيون ، لكنها لزائر عابر سيقضي أياما محدودة ثم ينصرف وليس لمقيم قدره البقاء الأبدي إلى أجل غير مسمى أو حتى إشعار آخر. كنت في كل مرة حانت فيها مغادرة فرد من العائلة أو صديق يزورني تحدث بدواخلي لحظة الفراق أوجاعا لاتتوقف ولا تندمل. أمر صعب أن تحيي مودعا زائرا مكث لأيام بضيافتك أمر صعب يفوق طاقتي ، لا أستطيع…! تخونني اللحظة و القدرة على الوداع ،فأنكفئ على ذاتي دون أن ألتفت. أمر يفوق كل المشاعر والأحاسيس .
ما السبيل لملأ هذا الزمن العابث بمشاعرنا ونحن ننحني له في دواخلنا تضرعا لعله يرحمنا من هذا الموت البطيء الذي يغتالنا في صمت ، ما السبيل ؟ كسرت هذا الصمت بمبادرة أطلعت عليها رفيق الدرب أحمد موضحا له أن الحل الوحيد لقضاء وقت ممتع بهذا المكان أن نعلن عن بداية رحلة إستكشافية لكل الأمكنة ، إنها مرحلة جديدة عنوانها :” الثورة على الصمت وعلى المكان ” فلايعقل أن نغادر هذا الموقع بعد زمن طويل دون معرفة مكوناته ، قلت مخاطبا رفيقي أحمد.
رد علي معقبا : ماذا عساك تعرف ؟ لن تجد شارعا واسعا به واجهات ومقاهي تمارس فيها عربدتك المعهودة وأنت تعلن عن وجودك المتطفل لزوار المدينة في ليلة مقمرة وجو رومانسي. ولابها قاعة مسرح لعهد قريب كنت تعاين فيها فرقة من الهواة تبدع في إخراج رائع نصا للماغوط وأنت تتذوق بشغف كبير الأدوار والشخوص والكلمات. ولاقاعة للسينما يعلوها الصمت لحظة لقطة حميمية فتخالطها بشكل مباغث رائحة الكيف القادمة من الخلف ووشوشات هنا وهناك في ليلة ممطرة. أتركني يا صديقي أقتل الصمت و الفراغ اللعين بطريقتي الخاصة فلن أسلمه أهتمامي. لقد عاكسني الحظ.
إستمر الحوار في جدال حاد بين أخذ ورد وفي الأخير إقتنع ببرنامجي و بالإقتراح حيث زاوجنا فيه بين فضول المعرفة واكتشاف الأمكنة وبين رياضة المشيء لساعات طوال ومسافات تتغيى إرهاق هذا الجسم المتعب أصلا فيستسلم للنوم في الليل. لأننا بكل بساطة نوجد في منطقة خارج تغطية التلفاز والإذاعة الوحيدة الموجودة بين خليط من محطات برتغالية وإسبانية هي تمازيغت التي نستأنس بسماع أغاني “الروايس” لجماليتها ورقة أسلوبها. وكلما حل الليل تلجأ لآلة التسجيل من أجل الإستماع لأشرطة مجموعات متنوعة وأخرى شرقية تعيد الذاكرة للزمن الجميل فتغمض عينيك وقد أستسلمت للوسادة محاولا النوم، فهل تستطيع ؟
مرت مدة ليست باليسيرة أخذنا فيها كل فرص إكتشاف المناطق البعيدة والقريبة مع تنبيه لطيف من شباب القرية محذرا من الدخول لبعض القرى دون استئذان فقد تجر علينا مشاكل لاتحصى. حاولوا أن تمروا بجانبها سالكين الممرات الضيقة فهي الكفيلة بجعلكم في مأمن…!
في الحقيقة نعتبرها نصائح قيمة . لم تمر سوى أشهر قليلة حتى ضبطنا موقعنا بالنسبة للمنطقة ووقفنا على بعض أسرار الساكنة من قبيل أقصر الطرق للوصول ” للڤيلاج”من أجل التبضع ، وهي أمور لم نكن لنقف عليها لولا هذه المحاولة ،وتلك الرحلات المتنوعة في الأهداف وفي الوجهات وغيرها من المعلومات. حين تحدد إشكالية تموقعك في هذا الفضاء الضيق وتفكر مليا أن رفيق دربك الذي يزورك كل صباح يطرق بابك بطريقته الفريدة على شكل إيقاع شعبي يشبه إلى حد بعيد رقصة ” أقلال ” الجميلة الإيقاع ، لاتكتمل فقراته إلا بنداء مستفسر يستأذن الدخول. وهو يعلن شغفه ورغبته باكتشاف مكان آخر. تؤكد في الأخير أننا إنتصرنا على الفراغ وقتلنا الصمت ولم نعد نشكو ضيق التحرك. ولا الحصار .
(أحداث كانت ذات زمان سنة 1987 بجبال أيت باعمران. )
ذ ادريس المغلشي.