محمد خلوقي
[العصفور الذي يتعود الحذر
يصير عَصِيّا على القَنْص .]
حين يتحلى المرء بالكرم، وبمحبة الناس ومراعاة ظروفهم ومشاعرهم ،ويوصله ايثاره احيانا درجة، يطغى على قاموسه كلمة ( نعم )،و حين يأتي منه الرد في مواقف ما بكلمة (لا ) ، سيكون شخصه وسلوكه محط تعجب وغرابة واستغراب ، لان هذا (الآخر ) لم يألف فيه هذا السلوك ، وهكذا يصير الرد ب ( لا) سلوكا مزلزلا او غير مريح ، وغالبا ما يتعرض مُتلَفِظُه الى سيْل من الانتقادات اللاذعة .
قد يكون ملفوظنا ب ( لا)شيئا موجسا وموجعا بالنسبة للمتلقي ، لكن في مواقف كثيرة من نضجنا وفهمنا العميق لما يحيط بنا تصير هذه (اللا )ضرورية في ايقاف من يتجرأ علينا او يستغفلنا، بل تمكننا من ان نحارب بها عادة الجواب (بنعم )، والتي غالبا ما تجعل بيتنا مشرعا على مصراعيه يدخله الطالح قبل الصالح ، اما ( اللا ) فتصير للمرء صخرةً مانعة ، وودرعا يحمي شخصه و يحفظ هيبته .
وللاسف الشديد ، فكثير من الطيبين والكرماء يُستَغلون في ميادين شتى من قبيل العلاقات الانسانية والعائلية او المعاملات المادية ، او المواقف السياسية ، واحيانا يتم إثقالهم بمهمات واعمال وأشغال شاقة ، والسبب كونهم لم يتمهروا في حياتهم على قول كلمة ( لا).
وفي هذا السياق نجد عالم النفس التنظيمي (آدم غرانت) ، مؤلّف كتاب “Give and Take” والبروفيسور في وارتون التابعة لجامعة بنسلفانيا، قد فصل في الفوائد والإيجابيات الوفيرة التي يحظى بها الكرماء في حياتهم العملية، ولكنه أيضًا، شدّد على أن (الـلا ) هي أحدُ أهم المهارات التي يتوجّب على المرء إتقانها، وخصوصاً المعطاءون.
ويشير (غرانت )إلى أن سلطة الـلا هي أداةٌ ضرورية لإيجاد الوقت اللازم لتحقيق المرء لأهدافه. ومن دونها، فسيكون الناس هم من يرسمون لك جدولك، وهذا يعني بأنهم سيحدّون إنجازاتك.
👈وكلمة (لا) ، ايها القارئ اللبيب ، ان أحسنت توظفها في مقاماتها النافعة ، فحتما ستقدم لك فوائدَ كثيرة ً، سواء في حقلك العملي ، او الشخصي ، لعل اهمها :
– انها تجعل الاخرين يحترمونك اكثر واكثر.
– وانها تشعرك بانك تتحكم بذاتك ، وانك انت الذي يرسم ، ويقرر حدوده مع الاخرين .و هذا من شانه ان يمنحك طاقة ، وثقةً عالية بنفسك .
– ( لا) هي اختبارٌ ناجح لصحة علاقاتك الشخصية الوثيقة، ولعدالتها وفاعليتها وجدواها ، ودرجة صدقها .فإن أحسست بأنك لا تستطيع أن تقول (لا) في بعض المواقف او المجالات ، او في بعض المناسبات، فاعلم ان قولك (نعم )باستمرار ، سيفاجئك ، وستعرف لاحقا ان هذا الآخر لم يكن يسعى الى حبك ، وإنما ، يريد أن يتحكّم بك وفيك .
وفي الختام ، اعلم ان حياة الانسان تفرض عليه ان يكون في قاموس معاملاته ( نعم ) و( لا ) ، لكن كرامته تشترط عليه في كثير من الاحيان ان يجهر ب ( لا ) ، ويصدع بها ، ويُشهر قوتها ولهيبها ، فهي مرتَكزٌ جوهري لبوصلة العلاقات والمعاملات ، ومن دونها، قد يصير المرء مجرد شخص تائه او تافه أومستَغَل ، او يصبح مطية مغفلة وساذجة ، تتعب وتكد من اجل إسعاد او إشباع رغبات هذا الآخر الذي قد لا يقدر سلوكك و موقفك .
دون قولك ( لا ) انت مجرد حلوى لا طعم لها في متجر الأخلاق والقيم. ..
اما قدرتك على قول ( لا )فهي خير تعريفٍ لقوة قلبك ..و ( لا ) هي التي تعطى معنى حقيقيا ، ووزنا رفيعا ، وقيمة عالية، لكلمة ( نعم) حين يتم التلفظ بها .
ولتحقيق هذا الهدف ، فان جهدك سيكون كبيرا .. وصبرك طويلا ..وسيرك متواصلا ومسترسلا الى ان تتمكن من خلق هذا النسق السلوكي والاخلاقي في ازمنة فوضى الانتهازية والوصولية .
فتدرب ..وتمهر على قول ( لا) ، مهما كان الثمن أو كانت المصاعب التي قد تجابهك .
واعلم بوعي وبصيرة ، ان من صارت له هذه القدرة والجرأة على قول ( لا) في زمن ( نعم ) ،سيكون – لا محالة – شخصا غريبا وفريدا ومميزا ، اشبه بمن يقرع اجراس التمرد ، داخل كنائس الانبطاح ، او كالذي يقود انقلابا على شريعة الخضوع والاستسلام ..
والعصفور الذي يتعود الحذر ويغرد ( بلا ) يصير عَصِيّا على القنص .