قال رشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب، في افتتاح أشغال لجنة القضايا الاجتماعية والصحة والتنمية المستدامة واجتماع شبكة البرلمانيين المرجعية من أجل بيئة سليمة، التابعين للجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، لقد حققت المملكة المغربية التي تتشرف باستقبالكم اليوم، الكثير في مجال صيانة وكفالة احترام هذه الحقوق وفي مقدمتها الحقوق الإنسانية الأساسية. وإذا كنا لا ندَّعي مَجْدَ الريادة في محيطنا القريب والبعيد، فإننا نفخر بأن ما حققناه وما ننجزه، تم برعايةٍ من صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله الحريص على التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي لجميع المواطنات والمواطنين.
فالتعددية السياسية والثقافية وحرية الرأي والتعبير، هي جزء من نسيجنا المجتمعي ومن سمات كياننا. والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، بما هي تجسيد للحقوق الاجتماعية هي ورش اجتماعي يَسَّرَ في ظرف وجيز من تمكين 23 مليون مواطنة ومواطن من التغطية الصحية انضافوا إلى ملايين المغاربة المتمتعين بهذا الحق. وأما الحق في السكن اللائق، فهو موضوع سياسات عمومية متعددة منذ أكثر من ثلاثة عقود ويمَكِّن مئات الآلاف من الأسر من الحصول على سكن لائق مدعوم اقتناؤه من طرف الدولة.
نسعد مرة أخرى في برلمان المملكة المغربية باستقبالكم، هنا في مدينة مراكش، هذه المدينة ذات الأفق العالمي، والتاريخ العريق المجسد لعراقة وقوة الدولة المغربية على مدى قرون، وللانفتاح الذي ميزها، على عمقها الإفريقي وجوارها الأوروبي. ومراكش ليست فقط مدينة سياحية عالمية، ولكنها المدينة الحاضنة للمؤتمرات الدولية في مختلف المجالات ولمختلف المنظمات متعددة الأطراف. فعلى هذه الأرض اعتمدت قرارات دولية فاصلة من قبيل ميلاد منظمة التجارة العالمية والتوقيع سنة 1994 على الوثائق النهائية لمفاوضات التجارة والتعريفات الجمركية المعروفة اختصارًا بـ GATT ، والتي أسست لعهد جديد في التجارة الدولية. ومراكش هي التي احتضنت مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية في 2016 في دورته 22 التي أكسب هذه الآلية الدولية بعدًا إفريقيا خاصًا وخالصًا. وفي مراكش تمت في دجنبر 2018 المصادقة، في إطار المؤتمر الحكومي الدولي، على الميثاق العالمي حول هجرة آمنة ومنظمة ونظامية من طرف نحو 150 دولة.
وتقع القضايا المطروحة على جدول أعمالكم خلال هذين اليومين، في صميم فلسفة هذه المؤتمرات والمنتديات الدولية والآليات والقرارات الصادرة عنها، وهو ما يجسد بالملموس، التزام بلادنا الصادق والدائم من أجل القيم الإنسانية، والتعاون الدولي والعدالة الاجتماعية، والعدالة على مستوى العلاقات الدولية، والرخاء المشترك. معنى ذلك، أننا في إطار الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، وفي المجموعة البرلمانية الدولية على العموم، نتوفر على المرجعيات الدولية المتوافق بشأنها، ذات الصلة بأشغالنا. ومُؤَدَّى ذلك أيضًا، أن الإشكال، كل الإشكال، يكمن في التنفيذ، وفي الالتزام الجماعي، وفي صدقية القرارات، وفي مدى الوفاء بالتعهدات.
وكما عَوَّدَتْنا على ذلك الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا وأجهزتها المختلفة، فإنها أحسنت اختيار المواضيع التي تنكبون على دراستها اليوم وغدًا. فاختيار صيانة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية البيئة في سياق العولمة والتجارة الدولية المفتوحة والمبنية على منطق السوق لتكون موضوع مداولاتكم يَنِمُّ عن إدراك واعٍ بالتهديدات التي تواجهها الديمقراطية وحقوق الإنسان في تجلياتها وأجيالها المختلفة.
إن الأمر في ما يرجع إلى صيانة الديمقراطية في أبعادها السياسية والمؤسساتية، يتعلق برهانٍ كَوْني ينبغي أن تتعبأ من أجله كافة القوى المؤمنة بالتعددية والانفتاح والتسامح والتَّضامن في مواجهة التعصب، والانغلاق، والنكوصية، والطائفية، ونَزَعاتِ مناهضةِ المؤسسات، وخاصةً مناهضة البرلمانات والتشكيك في جدوى وضرُورة العمل والالتزام السياسي.
وتَقَعُ على البرلمانات ومكوناتها السياسية مسؤولية خاصة في الذود عن الديمقراطية وذلك من خلال : 1) جعلها منتجةً للأثر على المجتمع وعلى حياة الناس و2) الحرص على مصداقية المؤسسات والوفاء بالالتزامات والواقعية و3) جعل البرلمانات فضاءات حاضنة لانشغالات المواطنين ومنتجة للحلول المتوافق بشأنها ومنفتحة على مكونات المجتمع و4) إشراك هذا الأخير عبر آليات الديمقراطية التشاركية، في الأعمال التي تدخل في اختصاص البرلمانات.
وبالموازاة مع هذه الظواهر التي تهدد الديمقراطية من الداخل، تواجه الديمقراطيات تحديات خارجية من قبيل التهديدات الإرهابية والفكر الشمولي المتطرف، ومخاطر إضعاف الدولة وانهيارها جراء النزاعات الداخلية وفشل مشروع بناء الدولة الوطنية بمستلزماتها المتعارف عليها دوليا، ومخاطر الانفصال وتفكيك الدّول. وحيثُ إِنه لا حقوقَ، مكفولة بالدساتير وبالتشريعات الديمقراطية المستندة إلى المواثيق والمعاهدات الدولية، دون ديمقراطية مؤسساتية على مختلف المستويات المحلية والجهوية والوطنية، فإن التحديات التي تواجه الديمقراطية هي ذاتها التي تُواجه حقوق الإنسان المعرضة للهشاشة أو للتقويض في العديد من الأوقات والسياقات.
وبقدر ما تحتاج الديمقراطية وحقوق الإنسان للتشريعات والمؤسسات والآليات التي تكفلها، فإنها تحتاج إلى الإمكانيات والموارد التي تعطيها معْنًى ملموسًا، والتي تجعل الناس يلمسون الحقوق ويمارسونها ويتمتعون بها. ومن هنا العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والتنمية، والمبادلات التجارية الدولية وعولمة الاقتصاد التي ينبغي أن تستفيد من مزاياها مختلف المجتمعات.
وإذا كان من الأهداف المعلنة لتحرير التجارة العالمية، هو أن يَعُمَّ الرخاءُ العالمَ، فإن هذا الطموحَ ما يزال بعيدَ المنال، بل إن الفوارقَ في التنمية والتمتعَ بالرخاءِ الناجمِ عن التطور التكنولوجي وعَائِدِ التجارة الدولية، تعمقت داخل المجتمع الواحد، وبين الشمال والجنوب. وكما كان الحال مع الثورة الصناعة التي تلاهَا شرخ تاريخي في التقدمِ بين الشمال والجنوب، فإن ذاتَ السيناريو يتكررُ مع الثورةِ الرقمية الحالية المواكبة للعولمة، حيث لا تتمتع فئات واسعة وشعوب عديدة بالمزايا المعرفية والاقتصادية والعلمية والخدماتية للعهد الرقمي.
ويعمق هذا التطور اللامتكافئ الإحساس بالغبن والحرمان ولا ييسر تمكين الجميع من الخدمات الاجتماعية خاصة إذا انضاف إليه ثقل المديونية الخارجية.
ومن جهة أخرى، تتسبب المنافسة الحادة على الأسواق في الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية ويزيد التمدن غير المتحكم فيه من أسباب الاختلالات المناخية التي تدفع ثمن انعكاساتها الفئات الهشة والبلدان ذات الدخل المحدود والتي ليست مسؤولة بشكل رئيسي عن تلويث الكوكب الأرضي كما هو حال القارة الإفريقية. فقارتنا تعاني من عواقب هذه الاختلالات جفافا وفيضانات وإجهادًا لثرواتها علما بأنها لا تتسبب – كما وجب التذكير دوما بذلك – سوى ب 4 % من مجموع الانبعاثات المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض.
وعلى غرار اجتهادات مجلس أوروبا وجمعيته البرلمانية في مجال حقوق الإنسان، والتي تحظى بتقدير دولي كبير، فإن الشبكة البرلمانية من أجل بيئة سليمة المنبثقة عن جمعيتنا البرلمانية تُوفر التشخيص الضافي والكافي للاجهاد البيئي الخطير في المجال الأروبي والأرومتوسطي والدولي.
ومهما تكن التشخيصات، فإن الأساسي هو أن يجد الترافع البرلماني عن قضايا البيئة الآذان الصاغية من جانب القوى الاقتصادية الكبرى، والشركات العملاقة والقوى النافذة في القرار الاقتصادي والسياسي الدولي، أولا، بإعمال الالتزامات الدولية في مجال الحد من التغيرات المناخية وثانيا، بتمويل الاقتصاد الأخضر ودعم الانتقال الطاقي، وثالثا، من أجل تيسير نقل التكنولوجيا من الشمال إلى الجنوب، وخاصة إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخفض كلفة اقتنائها حتى يتسنى لبلدان الجنوب استعمال تكنولوجيات الاقتصاد الأخضر في إنتاج الطاقة من مصادر متجددة وغير ملوثة، ومن أجل الاقتصاد في الماء وتعبئته.
ومن شأن ذلك أن يوجه رسالة إيجابية إلى الرأي العام في هذه البلدان بشأن مصداقية مفهوم التضامن الدولي من أجل الحفاظ على البيئة بما هو حفاظ على مستقبل البشرية. وينبغي أن نقدرَ جميعنا كلفة هذا الانتقال، والكلفة الباهضة للتجهيزات المستعملة في إنتاج الطاقة النظيفة، وفي توفير بيئة نظيفة وغير ملوثة باعتبار ذلك من حقوق الإنسان الأساسية الجديدة. وما من شك في أن المجموعة الدولية والضمير العالمي ممحتنان في شأن تمكين الجميع من تحقيق هذا الانتقال الطاقي، ومن الولوج إلى التكنولوجيا الميسرة لذلك. فالعدالة الاجتماعية الدولية والتضامن يقتضيان تقاسم ثمار التطورات والاختراعات التكنولوجية والكلفة الدولية للاختلالات المناخية، فأنَنْسنة العولمة تقتضي أن يجني ثمارها الجميع كما أن السير بسرعات جد مختلفة في التنمية والتطور لا يخدم الاستقرار العالمي.
ومن المواضيع المطروحة على جدول أعمالكم “استعجالية الصحة العمومية وضرورة إعمال مقاربة دولية شاملة لتوفير الدواء”. وقد أحسنتم باختيار هذا الموضوع بعدما أبان عنه التَّعاطي الدولي مع جائحة “كوفيد 19″، حيث ازدهرت الأنانيات الوطنية في إنتاج وتدبير وتوفير اللقاحات والتجهيزات الطبية ووسائل الحماية، وتُركت البلدان الفقيرة تواجه الوباء بإمكانياتها وتجهيزاتها الأساسية المحدودة.
وإذا كان وباء “كوفيد 19” قد فاقم من الأزمات الصحية، وأثقل الميزانيات العمومية وكَبَحَ الديناميات الاقتصادية، في العالم، فإن آثاره كانت وخيمة على الخدمات الصحية والإنفاق العمومي في بلدان الجنوب. وتسائلنا دروس “كوفيد 19” اليوم بشأن تيسير ولوج الجميع إلى الأدوية وإلى الخدمات الصحية والعلاجات. وبالتأكيد فإن ذلك يتطلب منا كمجموعة برلمانية Communauté parlementaire الترافع الجاد، واستعمال كافة سلطاتنا البرلمانية، والضغط، من أجل رفع القيود التي تعيق توفير العلاجات والأدوية للجميع، وأساسا تيسير نقل التكنولوجيا الطبية، والحد من الاستعمال المبالغ فيه، وغير المبرر، لبراءات الاختراع، في قطاع الأدوية والتجهيزات الطبية الذي أضحى مصدر اغتناء قياسي لعدد محدود من الشركات متعددة الجنسيات. ومرة أخرى يوجد “الضمير العالمي” و”التضامن الدولي” أمام امتحان أخلاقي وسياسي إزاء معاناة عدد من بلدان الجنوب وخاصة في إفريقيا.
وحسنًا فعلتم عندما اخترتم موضوع الحق في سكن لائق محورًا آخر لاجتماعاتكم، وهو أمر يرهن الاستقرار الأسري والاجتماعي ونمو الأفراد، وتماسك المجتمع. ومع تَسَارُعِ التمدين والتعمير، ومايترتب عن ذلك من مشاكل في المدن من ضغط على الخدمات وعلى البيئة والاستهلاك، تزداد الحاجة ليس فقط إلى توفير السكن بالسعر المناسب، ولكن إلى سكن بمستلزماته، من نقل حضري، ومساحات خضراء وفضاءات للترفيه ومؤسسات للخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة ورياضة وثقافة. وبالتأكيد، فإن بيئةَ سكن نظيفة ومنظمة من شأنها المساهمة في إنتاج أجيال منفتحة فخورة بالانتماء إلى محيطها ووطنها.
وفي هذا الموضوع تُطرح أيضا مسألة الإمكانيات، ومصادر التمويل والضغط على الإنفاق العمومي، وأساسًا كلفة إنتاج السكن وبناء مدن متمتعة بالمرافق الضرورية. وعندما نترافع، كبرلمانيين، عن هذه الحقوق، فإننا نتوخى الإدماج ومحاربة الاقصاء والفقر والهشاشة حيث البيئة الخصبة للاحباط والتطرف وإنتاج الفكر العدمي المتعصب. وعندما نتشبت بالتضامن الدولي، فلأن الأمر يتعلق بمطلب التوازن في العلاقات الدولية وفي المبادلات وبواجب أخلاقي وسياسي أثبت نجاعته. فأوروبا ما بعد الحرب الكونية الثانية نهضت أساسا بفضل السلم الداخلي والعابر للحدود، وأيضا بفضل مشروع مارشال لإعادة البناء.
أما عن جهود بلادنا في مجال الحد من عوامل الاختلالات المناخية، فإن المجموعة الدولية تشهد بنجاعة السياسات التي تنفذها المملكة من أجل الاقتصاد الأخضر وإنتاج الطاقة من مصادر غير ملوثة وتعبئة المياه، وهي برامج تشمل كافة التراب الوطني من طنجة إلى الداخلة، وتمتد في قطاع الفلاحة إلى أكثر من 15 دولة إفريقية.
وخلال أشغالكم سيعمل السيدات والسادة الوزراء والمسؤولون المغاربة على استعراض عدد من السياسات والبرامج العمومية التي تؤكد التزام بلادنا من أجل حقوق الإنسان ومن أجل الصحة والسكن للجميع وانخراطها في الجهود الدولية من أجل الحد من أسباب الاختلالات المناخية.
لا تفوتني الفرصة دون أن أثمن، وأجدد اعتزاز مجلس النواب بالشراكة النموذجية، الصادقة والجادة والمسؤولة والمثمرة القائمة بين برلمان المملكة المغربية والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، صيانة للديمقراطية ومن أجل دعم الشراكة القائمة بين المغرب ومجلس أوروبا وبين المغرب وأعضاء المجلس في الإطارات الثنائية. وبالتأكيد، فإن تمتع البرلمان المغربي بوضع الشريك من أجل الديمقراطية لدى الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا منذ 2011، وكون المغرب أول بلد شريك من أجل الديمقراطية لمجلس أوروبا في الديموقراطية المحلية، وخارطة الطريق 2022-2025 التي تعتبر الإطار الاستراتيجي للتعاون بين مجلس أوروبا والمملكة المغربية، كُلُّها عربون على الثقة المتبادلة، وعلى عمق الروابط القائمة بين المغرب والمجلس والمبنية على المصالح المتبادلة وأساسًا على الاحترام المتبادل وعلى القيم التي نتقاسمها.
وأود بهذه المناسبة أن أجدد انخراط مجلس النواب في هذه الديناميات الإيجابية وعلى أهمية استمرارها على أساس الثقة والوفاء والشراكة، وأثني على جهود السلطات السياسية بمجلس أوروبا والجمعية البرلمانية من أجل تعزيز شراكاتنا، ومن بينهم بالطبع مكتب مجلس أوروبا بالمغرب والساهرين على برامج التعاون التقني بين البرلمان المغربي والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا.