شكلت بمعية أخي الأكبر المتوفى أمس في حياة أبي رحمة الله عليهما مثلث تشاور من بين عشرة أبناء وبنات يأتي الإختيار هكذا الأكبر والأوسط . بدون ترتيب مسبق . الأمر تم بشكل عفوي .ربما يرجع الأمر كون أخي إبنه البكر وكوني كثير التعلق بأبي منذ الصغر عكس إخوتي . كنا نعقد جلسات حميمية وفيها نتداول قضايا الأسرة . تواضعنا كل يوم خميس بين العشاءين او يوم الجمعة بعد الصلاة .نتبادل أخبار العائلة الكبيرة والصغيرة وأمور الحياة . أعلم جيدا مدى ارتياح أبي لهذه الجلسة والتي كانت تشكل بالنسبة إليه فرصة مرافعة قوية يفرغ فيها شحنات عاطفية تجعلني أراقب تدخلاته وهو يمارسها بعشق الكلام الذي يزاوج فيه بين أحداث سابقة وأخرى لاحقة . كان أخي الأكبر كثيرا ما يرتاح لهذه الجلسة بحضوري بل ويلح علي كلما منعتني ظروف بل قد يؤجلها لحين تواجدي .
ذات يوم وفي غمرة النقاش الدائر بيننا صرح لنا الأب في آخر أيامه قبل وفاته بأشهر قليلة ونحن الثلاثة مجتمعين . :
” لا أخفيكم سرا هذا الكلام لم أقله لأحد من قبل ولن يسمعه أحد من بعد . أشهد الله أنكم لستم أبنائي فحسب بل أصحابي …” كانت كلماته تنزل على جمعنا وكأنها رياحين ونسمات من السماء ونحن نتلقفها في نشوة وفرح واعتزاز . لحظة اعتراف صادقة ونابعة من القلب . طوقتنا بمسؤولية الالتزام والإستمرار مادمنا نشعر بلحظة قطف ثمارها بهذه الشهادة كوسام نوشح به القلب قبل الصدر كالنياشين .كيف لا وقد شكلت تلك الجلسات قيمة مضافة على أيامنا الإعتيادية فكنا نستزيد منها بنهم شديد دون توقف .
الجميل في هذه الدردشات العابرة المرسخة لثقافة التواصل أنها تجعلني وفيا لها .لايمكن أن أقدم على فعل او مشروع كيفما كانت قيمته دون أن أستشير فيه الوالد وكنت أحرص على هذا الأمر شديد الحرص خصوصا بعدما تقاعد هو وأصبحت لدي أسرة وانشغالات كثيرة هو يعلمها اكثر من أي أحد آخر كنت أشاركه في كل الأمور حتى يحس بأن دوره لم ينته بعد وأنه هو الآمر الناهي .
الجميل في جلساتنا أن أحد الثلاثة يتحول إلى حكم بين اثنين كلما تباين النقاش واختلفنا فيه وفي كثير من الأحايين كنا نرجح في الإحتكام كفة الوالد توقيرا له . بل كنا ننهي هذه المجادلات بيننا بنوع من الفكاهة والمرح ونحن نتواعد على لقائنا الرتيب . بعد وفاته حرصت على زيارة أخي الأكبر في بيته كالعادة وقد استمرت لقاءاتنا لعقد من الزمن .صحيح أنها لم تكن كسابقتها الأولى .لكنني كنت أرى في عينيه ذاك الشوق المترامي في الأفق يشبه الشفق وهو يرسل إشارات وفاء لأبي رحمة الله عليه على أننا لازلنا على العهد وسنستمر مادام في القلب نبض . كانت زيارتي الأخيرة له قبل وفاته بعدما جلسنا نتبادل فيها الحديث أحسست به وأنا أهم بمغادرة البيت وكأنه يتمسك بي لأطول مدة فأضفنا لزمننا العادي سويعات أحسست به وهو يمسك بيدي بقوة لم أعهدها من قبل وكأنه يصافحني للمرة الأخيرة .وداعا أخي الأكبر لقد كنت الأب والأخ .لن أزور المكان يوم الخميس كما كنت أفعل من قبل لأبادلك الحديث الذي لم ولن ينته . لأنك كنت الحلقة الأخيرة من الزمن الجميل التي سقطت من طقس فريد أفل بدون رجعة .
رحمات ربي عليكم جميعا .
ذ ادريس المغلشي .