يبدو أن المشهد الحزبي ببلادنا قد تداعت عليه الفضائح والأحداث كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، وأصابه الوهن السياسي لدرجة أن فقد السيطرة على نفسه وأصبح غير قادر على تجديد نخبه وبالتالي عدم قدرة مكوناته إقناع الشباب المغربي إن لم نقل المغاربة بصفة عامة بالإنخراط في العمل السياسي الذي انقاد كرها للعزوف عن الممارسة السياسية لدرجة التلويح والتهديد في أكثر من مرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطعة استحقاقات انتخابية سابقة .
وبحسب المندوبية السامية للتخطيط ، فإن نسبة الشباب تجاوزت 65 في المئة ، ما يعني أكثر من نصف سكان المغرب . في حين بلغت نسبة العزوف عن العمل السياسي 70 في المئة حسب نفس المصدر ، أي حوالي ثلثي سكان البلاد .
أرقام صادمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، تسائل بكل قوة ضمير نخبنا السياسية ورؤساء أحزابنا الوطنية وقادة فصائلنا النقابية وكوادر هيئات ومنظمات مجتمعنا المدني بكل أجهزتها الإدارية وبرلماناتها الداخلية وآلياتها التنظيمية ، بل وحتى برامجها السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي لا تعدو حبرا على ورق تتناثرها هبات الرياح هنا وهناك وسط الدروب والشوارع والأزقة أيام الحملات الإنتخابية فقط ليكون مصيرها في آخر المطاف دكاكين البقالة وأصحاب محلات بيع ( الزريعة و كاوكاو ) يلفون لزبائنهم حاجياتهم فيها.
واقع حزبي كهذا يضع أحزابنا الوطنية في قفص الإتهام أمام محكمة الضمير المجتمعي بتهم كثيرة ، ثقيلة و مختلفة ( الريع السياسي ، انعدام الديمقراطية الداخلية ، البيروقراطية الحزبية ، الولاء بدل الإستحقاق ، إقصاء الكفاءات والشباب ، المؤتمرات الصورية المفبركة في الظلام الدامس ، غياب المرجعيات الإديولوجية ، التحالفات الهجينة ، استغلال الدين ، التشبت بالمسؤولية ، تأليه الزعيم …إلخ ) تدينها وتصدر في حقها أحكاما تنزع منها الشرعية كالهياكل يشار إليها بالبنان .
ولعل للموروث المزدوج في ثقافتنا السياسية أثر كبير في هذا العزوف ، والذي يتمثل أساسا في تأليه الزعيم ، وحب الخلود الأبدي في القيادة مهما كلف الأمر ذلك وبأي ثمن ( تجربة المرحوم المحجوب بن الصديق في قيادة الإتحاد المغربي للشغل : من المهد إلى اللحد ) .
فبمجرد انتخاب رئيس أي حزب ، أول شيء يقوم به هو شراء ( مسامير العشرة ) وتصليب نفسه على كرسي الرئاسة ، حتى إذا أرادوا اجتثاته يقتلعون معه الكرسي تجسيدا واقعيا للمثل الشعبي : ( لا رابح لا مربوح ) .
وبنظرة بسيطة على معدل أعمار رؤساء أحزابنا الوطنية التي تجاوزت الثلاثون حزبا نجده فاق الستين سنة ، نقيض جاراتنا الشمالية في أوربا . بل لا زالوا طامعين في القيادة ، ويقودون معارك شرسة وقدرة من أجلها تنتهي غالبا بالإنشقاقات وتفريخ أحزاب جديدة ، وطامعين أيضا في تولي مناصب حكومية عوض أن يفتحوا المجال للشباب الذين يستغلونهم فقط كدروع بشرية لتزكية وضعيتهم داخل هيئاتهم السياسية ، في مشهد يثير الإستخفاف أكثر مما يثير الإحترام ، ويبعث على الإحتقار أكثر مما يبعث على الكراهية.
هذه هي حقيقة واقعنا الحزبي ببلادنا مع الأسف ، في انتظار جيل جديد من نخبنا السياسية يعيد الإعتبار للعمل السياسي ويخلق المشهد الحزبي بما يكفل فتح المجال للشباب ذووا الكفاءات لتولي المسؤوليات الحزبية في أفق خلق أحزاب سياسية قوية بمرجعيات إيديولوجية بينة تقدم الإستحاق على الولاء وأصحاب الفكر السياسي القيم الناضج على أصحاب ( الشكارة ).