قال الخضراوي، إنه ” بقدر ما أصبح هاجس فيروس كورونا المستجد موضوع تتبع دقيق ويومي من طرف المجتمع الدولي بكل مواقعه ومسؤولياته، بالنظر إلى تهديده الواضح للصحة العالمية، فانه يقتضي منا التعامل مع كل جوانبه و آثاره الأخرى الممكنة والمحتملة بكثير من الجدية والموضوعية والمسؤولية بعيدا عن الهلع و القلق و التهويل. فقد أثارت مخاطر الأوبئة والأمراض خلال العشرين سنة الأخيرة العديد من الإشكالات ذات الأبعاد القانونية والاقتصادية والاجتماعية في ارتباطها بالأمن الصحي العالمي وبالعوائق والإكراهات الناجمة عنها في مجال تبادل السلع والخدمات، وذلك مرورا بوباء SRASسنة 2003 و(H1N1) سنة 2009 أو (EBOLA)سنة 2014 ليتجدد النقاش اليوم على المستوى الدولي بخصوص آثار فيروس(CORONA)المستجد على بعض المعاملات التجارية والعقود الشغلية والالتزامات المالية والضريبية، حيث دفعت عدد من المؤسسات والشركات العالمية خاصة الصينية والأمريكية منها المتخصصة في مجالات مختلفة مثل صناعات السيارات والنقل الجوي والمعلوميات والمواد البترولية والغازية، بوجود حالة ( القوة القاهرة ) من أجل التحلل من التزاماتها التعاقدية تجاه زبنائها وعدم أداء غرامات التأخير أو التعويض عن التأخير في التنفيذ أو عن استحالته. وهو ما جعل عددا من الدول تبادر خلال الأيام القليلة الماضية إلى تبني هذا الموقف ودعمه حيث أعلن وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي يوم 28 فبراير الماضي بعد اجتماع مع الشركاء الاقتصاديين أن فيروس كورونا يعد قوة قاهرة بالنسبة للمقاولات، مؤكدا أنهم لن يطبقوا غرامات التأخير في التنفيذ على الشركات المرتبطة بعقود مع الدولة، وطرح إمكانية اللجوء إلى الخدمات الجزئية وإعطاء مهل لأداء الأعباء الاجتماعية والضريبية بالنسبة للمقاولات التي يثبت تضررها من آ ثار هذا الوباء، والكل بهدف حماية الاستقرار بشكل مسؤول وعدم السقوط في مغبة القلق والهلع الاقتصادي. كما أكدت هيئة تنمية التجارة الدولية الصينية أنها ستمنح شهادات (القوة القاهرة) للشركات الدولية التي تكافح من أجل التأقلم مع تأثيرات عدوى فيروس كورونا خاصة الشركات التي ستستطيع تقديم مستندات موثقة لإثبات التأخير أو تعطل وسائل المواصلات وعقود التصدير وإعلانات الجمارك وغيرها. مبادرات وإجراءات لا تحجب عن المتتبعين ظهور بوادر جدل ونقاش قانوني اقتصادي حول موضوع القوة القاهرة الذي يعد من المواضيع المعقدة التي تحتمل كثيرا من التأويلات واختلاف وجهات النظر حول مدى توافر شروط هذه القوة القاهرة من عدمه، خاصة عندما نكون أمام وباء صحي عالمي تختلف آثاره بين السلبية والايجابية باختلاف المواقع والمؤسسات، وباختلاف الظروف المحيطة بالتعاقدات المتنازع بشأنها، إذ أن بعض القطاعات على خلاف الباقي عرفت نموا كبيرا بسبب انتشار هذا الفيروس خاصة تلك المتعلقة بالتجارة الالكترونية. والأكيد أن عددا من المقاولات المغربية في علاقاتها الاقتصادية ومبادلاتها التجارية والدولية ستصطدم بكثير من هذه المطبات التي يتعذر الخوض في تفاصيلها التقنية والمالية، والتي ستؤثر سلبا على عدد من التزاماتها وإنتاجياتها وخدماتها،حيث طالعنا عبر عدد من الجرائد والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي إخبارا عن إلغاء و تأجيل عددا من الرحلات الجوية والأسفار السياحية (العمرة)، والأنشطة واللقاءات والتظاهرات مما تضرر معه الشركاء والمؤسسات المعنية بها، فضلا عن المقاولات التي ترتبط أنشطتها التجارية بشكل كبير بالمقاولات الصينية (الصين ثالث مشارك تجاري للمغرب) التي بدأت تشكي من ركود معاملاتها، مما سيثير النقاش مجددا حول نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة ومدى إمكانية استفادة هذه المقاولات منها للتحلل من التزاماتها العقدية وتعديلها أو التخفيف منها. إننا إذن أمام إشكال قانوني اقتصادي يفرض علينا الوقوف على بعض مداخله الأساسية. المدخل الأول: كرونا والقوة الملزمة للعقد أي علاقة؟ لا شك أن فكرة “العقد شريعة المتعاقدين” تنبني على ثلاث أسس، أولها قانوني قوامه مبدأ سلطان الإرادة وثانيها، أخلاقي يتمثل في احترام العهود و المواثيق و ثالثها ذو طابع اجتماعي و اقتصادي يترجمه وجوب استقرار المعاملات. وهي فكرة توجب احترام مضمون العقد سواء من طرف المتعاقدين أو من جانب القضاء. لكن الأوبئة الصحية كواقعة مادية صرفة تكون لها آثار سلبية واضحة يمكن رصد ملامحها على العلاقات القانونية بوجه عام و العلاقات التعاقدية على وجه الخصوص حيث تتصدع هذه الروابط نتيجة ركود يصيب بعض القطاعات الاستثمارية مما يجعل من المستحيل أو على الأقل من الصعب تنفيذ بعض الالتزامات أو يؤخر تنفيذها. وهو وضع قد يمس المؤسسات الصناعية و التجارية الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة والمتوسطة على السواء، بالنظر للارتباط الكبير والوثيق بين أنشطتها حيث يكفي أن تصاب إحداها بأزمة اقتصادية لكي تهدد الأخريات بدورها . ومن هنا تبنى الفكر القانوني والاجتهاد القضائي عبر العالم آليتين تعتبران من الوسائل الحمائية للمدينين الذين يصبحون مهددين بالإفلاس أو على الأقل أصبحت ذمتهم المالية مصابة بتصدع خطير. هاتان الآليتان هما نظريتا القوة القاهرة و الظروف الطارئة التي ترميان إلى علاج الحالات التي يصير فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ (القوة القاهرة) أو صعب التنفيذ (الظروف الطارئة). وهما في الأصل يعدان تطبيقا لمبدأ أخلاقي عام مفاده أنه لا تكليف بمستحيل أو لا تكليف بما يتجاوز الطاقة العادية للإنسان. ومن الناحية الموضوعية – كما أكد على ذلك الفقه القانوني- فهما ترجمة للعلاقة الوطيدة بين القانون و الاقتصاد من جهة أولى ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى. فلكي يسأل المدين عقديا يجب أن يكون قد أخل بالتزامه العقدي، ومن صور ذلك الإخلال ، عدم التنفيذ في الوقت المتفق عليه وهو ما يتم وصفه بالتماطل. غير أن هذه المسؤولية العقدية قد ترتفع عن صاحبها إذا ما تمسك بأحد الأسباب الأجنبية عنه و التي تمثل في جوهرها كل الظروف والوقائع المادية أو القانونية التي يمكن للمدعى عليه في دعوى المسؤولية المدنية أن يستند إليها لكي يثبت أن الضرر لا ينسب إليه ولا دخل له فيه وإنما هو نتيجة حتمية لذلك السبب . وتمثل القوة القاهرة أهم صور هذا السبب الأجنبي. المدخل الثاني: هل يعد فيروس كورونا أحد تطبيقات القوة القاهرة؟
ما مفهوم وشروط القوة القاهرة؟
عرفها المشرع المغربي في الفصل 269 من ظهير الالتزامات والعقود كالآتي: “القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية، (الفيضان والجفاف والعواصف والحرائق والجراد)، وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شانه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا”. أما شروطها التشريعية الرئيسية فهي ثلاث: – أولا: عدم التوقع. – ثانيا: استحالة الدفع. – ثالثا: عدم صدور خطأ من المدين المتمسك بالقوة القاهرة. وكل شرط من هذه الشروط اختلفت بشأن تطبيقه النظريات الفقهية والتشريعات المقارنة، لكن من الناحية المبدئية يمكن أن نستخلص منها أن انتشار وباء صحي كواقعة مادية قد تكون قوة قاهرة كلما كان لها تأثير مباشر على عدم تنفيذ الالتزام التعاقدي من طرف المدين إذا ما توفر لها شرطان أساسيان وهما عدم التوقع واستحالة الدفع بالكيفية التي سبق توضيحها أما الشرط الثالث المتمثل في خطأ المدين فيظل في هذه الحالة بالخصوص حالة فيروس كورونا عنصرا غير مطلوب منطقيا. بل إن الظروف المحيطة بانتشار فيروس كورونا او تلك المتولدة عنه بصفة مباشرة أو غير مباشرة قد تكون بدورها عبارة عن قوة قاهرة ومن ذلك مثلا وقف استراد بعض المواد الأولية أو رفع أسعار بعضها الأخر. فالقوة القاهرة لم تعد محصورة على وقائع محددة دون غيرها فكل واقعة تحققت بشأنها الشروط وجعلت التنفيذ مستحيلا إلا وعدت حالة من حالات القوة القاهرة. ويبقى بطبيعة الحال المدين هو الملزم بإثبات توافر هذه الشروط. إثبات يكون على سبيل اليقين لا الشك والاحتمال وتتشدد عادة المحاكم العليا في مراقبتها لقضاة الموضوع أثناء تعليلهم لسلطتهم التقديرية، وهو ما أكدته محكمة النقض المغربية في عدد من قراراتها ومنها قرار عدد 7/54 بتاريخ 4/2/2014 وقرارها عدد 24/1 بتاريخ 10/01/2019. المدخل الثالث: موقف القضاء المقارن من تأثير الأوبئة والأمراض على تنفيذ الالتزامات العقدية (إشكاليات الزمان والمكان)
إشكالية الزمن:
السؤال الذي يطرح نفسه هو متى يتم تقدير شرط “عدم توقع الحدث” اي فيروس كورونا من طرف القضاء؟ مبدئيا يتم ذلك بالنظر إلى تاريخ إبرام العقد وهو ما قررته محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29/12/2009 بمناسبة قضية تتعلق بوباء (chukungunya) الذي ظهر شهر يناير 2006 معتبرة أن شرط “عدم التوقع” الذي يبرر فسخ العقد لم يتحقق مادام أن الاتفاق تم شهر غشت سنة 2006 أي بعد ظهور الوباء بأشهر. توجه قضائي نستشف منه أن هذا الإشكال لن يطرح الآن بمناسبة فيروس كورونا بالنسبة للعقود القديمة لكن التساؤل سيطرح بالنسبة للعقود التي أبرمت بعد ظهور هذا الوباء،وهنا ايضا نتوقع حدوث نقاش جاد حول التاريخ الواجب اعتماده لاعلان ظهور فيروس كورونا، هل تاريخ إعلانه بالصين؟ أم بالبلد الذي توجد به الشركة التي تتمسك بالقوة القاهرة؟ أم التاريخ الذي حددته منظمة الصحة العالمية؟
إشكالية تحديد المناطق المصابة بالوباء؟
إن مسألة تحديد المناطق هاته ليست بالسهلة أو اليسيرة لاختلاف المعايير، وقد أثير هذا الإشكال سابقا في نزاعات تتعلق بقضايا الأسفار حيث تم رفض السفر إ.لى مناطق قريبة، ومحاذية لاماكن وصفت بالخطيرة لانتشار وباء صحي بها، حيث اعتبرت محكمة باريس أن الخطر الصحي لم يكن قاهرا وموجودا بدولة التايلاند وأنه لم يكن مقبولا اعتبار السفر إلى هذا البلد مستحيلا (حكم بتاريخ 4/5/2004). وفي حكم آخر بتاريخ 25/7/1998 أكدت نفس محكمة باريس أن توقف الطائرة ببلد مجاور لمنطقة تعرف انتشار وباء الطاعون لا يشكل خطرا يفسر انه قوة قاهرة.
إننا إذن أمام وضع صحي عالمي يثير الكثير من التساؤلات، والإشكالات ذات بعد اقتصادي وقانوني وتتطلب منا مقاربة حكيمة تضمن التوازن العقدي وتكرس الدور الأساسي للقضاء في تحقيق الأمن القانوني والاجتماعي المنشود.
؛