تميز حفل تأبين الفقيد عبد اللطيف القباج الذي نظمه كل من المكتب الإقليمي و الجهوي لاتحاد التكوين الحر بمراكش، المكتب التنفيذي للفيدرالية المغربية للتعليم و التكوين الخاص، و هيئة الخبراء المحاسبين، و الهيئة العليا للحسابات بالمغرب، فضلا عن مؤسسة صوفيا للتعبيم الخصوصي، بالكلمة المؤثرة التي ألقتها رفيقة دربه الأستاذة فوزية بنعبيد، امتزجت فيها الفلسفة بوشائح الوفاء و الإخلاص، تحدثت خلالها نائبة وزارة التربية الوطنية سابقا عن خصال الفقيد الذي رهن حياته للأعمال الإنسانية الخيرية.
تقول الأستاذة فوزية بنعبيد : ” إن الموت حقيقة و واقع بيولوجي يتجسد في تحول الجسم إلى جثة، فتتغير مقاربته كشخص من ثقافة الحياة إلى ثقافة الموت، و من استعارات “واقعية” إلى أخرى “استيهامية”، كأن يقال بأنه من تحت إلى فوق و من المرئي إلى اللامرئي، و من الظاهر إلى الخفي و من الحضور إلى الغياب، حينها تحدث القطيعة بينه و بين غيره. فلا أحد، كيفما كان، كان يمكنه أن يجابه معه أو مكانه و نيابة عنه، مصير الموت، لا تعاطفا، و لا تقاسما، و لا إشفاقا، و لا تأجيرا… إن الذات وحدها تلقى مصير الموت و تنتهي كل الآفاق و الخيارات و الحريات أمامها. إنها تنتهي وحدها لتصير استعارة و مجازا ثقافيا لدى الأحياء و حدهم: يحاكمونها، و يحكمون عليها ثم يبنون لذواتهم بواسطة تلك الاستعارات قيمهم أو لنقل جسورهم الذهنية و النفسية و التقنية، و لربما حتى الواقعية، يفسرون بها حياتهم الخيالية و الواقعية الممتدة بعد المتوفى، ينعمون بها على أنفسهم بطقوس الرضى و الرضوان على الذات و كأن موته تقع من أجلهم، و لأجل أن يحيون…
إن في موت الذات نوعا من حياة الأغيار، و مناسبة للترويج الثقافي عبر القلق و اللبس و اللباس و أهاجيز الطقوس و رقصاتها… و في كل الأشكال و المعاني و المضامين لا يكون كل ذلك إلا من أجل الأحياء… من أجل الأحياء عامة… من أجل التنفيس عن حدة القلق الوجودي المطلق:
قلق الخوف من الموت…
ينسب إلى سقراط اعتباره أن الموت مجرد نوم بلا أحلام، و لا حاجة للخوف منه… فعلى الرغم من أن الذات وحدها التي تجابهه فإنها بالمطلق لا تحسه و لا تتحسسه، لا تعيه و لا تدركه. ووحدها، لا تعرف أنه حدث لها و وقع عليها و نفاها، إنها على عكس كل ما يحيط بها من أغيار ، من خصوم و أعداء و من أحبة و أنجال، تجهله و لا تحتاج للتعليق عليه، إنه مصيبة حياتها، تلك التي، لا مصيبة فيها…
لكن كل هذا لا ينفي أن في الموت ثمة منتصر أبدي هو الموت، و خاسر أزلي هو الإنسان. و أن في موت الغير ندرك موتنا، و أن الحزن على موته هو بالنهاية حزن الذات المسبق على موتها، و إن نعيه نعي للأنا التي تنتحب على مصيرها في موت غيرها، غير أن هذا الحزن يزداد قساوة و عمقا كلما كان بين الميت و من يحزن عليه وشائج أوضح و حياة أرسخ وحب و وفاء خالدين…
أريد أن أخاطب معكم، السي عبد اللطيف القباج… و من خلالكم… لأقول له: إن ما جرى و ما يجري حول رحيلك لا يمكن أن ينفيك عنا،
لأن الموت هو الذي يموت و يميتك، إنه كما تصوره الفيلسوف الألماني لودفيع فيورباخ مجرد : «شبح و وهم لا يوجد إلا في عدمه، بل إن وجوده
هو عدمه … إنه أقل من لا شيء».
و نحن إذ نصرف الحزن من أجلك لا من أجل الحياة فينا، فأنت تأخذنا منها لنفسك، و نأخذك منها لأنفسنا… و لتلاحظ، يا شيخنا الموقر، أن حياتك كانت بفائدة، و مماتك بفائدة، و عزاؤنا فيك بفائدة… يموت الطالحون مرات عديدة. و يحيا الصالحون في حياتهم و بمماتهم أجيال مديدة…لم تضع وقتك في حياتك و لم تضعك موتك فأخلدتك… لقد كان سعيك في الحياة مشكورا و في الممات ممدوحا مذكورا…
فها هو حدادنا عليك لقاء محبة و تحضر ووفاء جميل من أصدقائك
و زملائك و عائلتك و أحبتك، ينعمون بالشوق إليك و يتغنون بمحبتك،
و حسن معاشرتك و سلوكياتك و اسهاماتك… فإليهم منك و مني و من أبنائك و كل من تعامل معك أصدق الشكر و الامتنان و بالغ الاعتزاز
و الفخر. إنكم زملاءنا الأعزاء تقدمون بهذا الفعل صورة رائعة عن علو سموهم و كامل انسجامهم مع القيم و الأخلاق الرفيعة لنســـــــاء و رجال التربيــــــــــــــة و الفكر و التعليم…
تلك هويتكم… فمرة أخرى لكم مني و من عائلتي أرقى الود والاعتراف و خالص التمني بالسعادة و الهناء و طول العمـــــــــــــــــــــــــــــر…
لقد كان الفكر و السلوك الإنساني، كما هو الشأن لديكم، هدفا و ممارسة لدى “السي عبد اللطيف القباج”: ففضلا عن تفوقه و ألمعيته في علم و عالم الخبرة المحاسباتية، أبدع أيضا في مجال التربية و التعليم،
و احتل ريادتها: فقد كان يؤمن أنه ينبغي أن يكون المقصد الأساسي للفعل البشري، و في طليعته الفعل التربوي و التعليمي، هو تعزيز كرامة المتعلم، و الإنسان عامة، و تنمية قدراته من أجل رفاهيته في علاقته مع الآخرين و مع الطبيعة و الطبيعة الإنسانية.
ذالكم هو التوجه الإنساني الوثيق الارتباط بعقلية عبد اللطيف القباج، و طموحه النظري و العملي، و في عمقه اعتبار التربية و التعليم
غاية قصوى في ذاتها و قيمة إنسانية عليا و مسؤولية الدولة و المجتمع، و النخب الاقتصادية و الفكرية و غيرها. و لهذا يجب الاستمرار، في تفكيره و تنظيمه و تنويع شركائه، و التحكم في حوكمته السوقية و المعيارية، لأنه أولا و أخيرا صالح عام، و مصير و حياة مشتركين للوطن و الأمـــــــــة.
إن النظام التربوي المثالي يجب أن يكون ديمقراطيا و مساواتيا، لكن مع الإصرار، في نظره، على أن لا يترك المتعلم و الطفل عامة، ضحيــــة للفوضــــى…
إضافة إلى ذلك ينبغي على أولادنا، كما كان يعتقد، أن يتعلموا كيف يتواصلون، و كيف يفكرون، و كيف يعبرون، و لكن أيضا، يجب أن يتعلموا كيف يتحلون بالآداب السليمة، و كيف يحترمون الآخرين مهما بلغ اختلافهم… و إلى جانب هذا و ذاك، كان الفن أمرا قيما في ذاته، بالنسبة إليه، معتبرا أنه يجب أن يكون هدفا لدى المربين و المعلمين
و المتعلمين، لأن الحب و الفن هما شيء واحد، في نظره.
صحيح أن التربية لديه يجب أن تكون نفعية و في نفس الآن أدبا و فنا و أخلاقا، و المربي الحديث لا ينفر من التأديب و لا ينحيه، و إنما يسعى إلى تحقيقه بطرق جديدة…
تلك كانت بعض القواسم المشتركة بيني و بينه حول التربية الحديثة، تشبّعْث بها من خلال تكويني الفلسفي، و معرفتي بعلوم التربية، وتأكدت نجاعتها عبر تجربتي الأستاذية و مساري المهني في التأطير التربوي، و مهامي الإدارية، و قد مارستها كلها بوعي و جدية…
أما هو فقد كان حسه الأبوي السليم و انفتاحه الثقافي و الحداثي، و تجربته الدراسية و العملية المهنية، قد وهبته جميعها تلك الرؤية المتوازنة و المتقدمة في وعيها التربوي و الأخلاقي.
نريد أن نلتزم أمامكم و بكل تأكيد و إصرار، أننا، في مؤسسة صوفيا للتربية و التعليم المدرسي الخصوصي… لن نذخر جهدا و لا تضحية، مهما كلفنا الأمر، في الوفاء للسي عبد اللطيف القباج و رؤيته و إتمام مشاريعه الخلاقه، التي كانت و ستبقى مشاريعنا أيضا، و لهذا فإننا ندعوه لأن يرتاح في نعيمه الأبدي، لأنه سيبقى خالدا معنا من خلال سلوكه
و أفكاره و هدوئه و حسه الجمالي و تدبيره.
إن الموت بالرغم من قساوته و عنفه، لن يتجاوز تغييب جسدك الطاهر، أما روحك الأبوية و التربوية و الأخلاقية، فإنها تجعلك دائم الحضــــــــــــــو معنا و فينـــــا… “لقد تركت فينا ما يجعلك دوما قدرنا”، فقد كنت صالحا لنا في حياتك، و عزاؤنا أنك لا تزال صالحا لنا، في غيابك… و إذا توقفت الحياة في قلبك فإنك حي و رائع في قلوبنا، و إذا توقفت في عينيك فإنك جميل و فاتن في عيوننا. إنك لم تغادرنا لكي تعود، و لكنك لست، و لن تكون مجرد ذكرى نحن إليها، بل أنت حياة نحيا و نموت فيها، فليتغمدك الله برحمته الواسعة، و ليسكنك فسيح جنانه، و يلهمنا فيك الصبر الجميل و يغفر لك إنه هو الغفور الرحيم. ربنا اجعله بين الخيرين من عبادك المحسنين، مع الأنبياء و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا.