إدريس الأندلسي
ممارسة السياسة في بلادنا ليست بالأمر السهل. كانت في الغالب ممارسة تتطلب الكثير من الاقتناع و التضحية. كانت هذه الممارسة تخضع لاجتياز مسارات نضالية و تكوينية و كثير من الصبر. و أصبحت في يومنا تخضع في الغالب و عموما لمنطق الوصول بأقصى سرعة إلى مرتع يضمن موقعا و منصبا و امتيازات مادية. هناك من لا زال مسكونا بحب السياسة و بمبادئ الإخلاص للوطن و لكن هذه ” العملة ” أصبحت ناذرة. جرح المغاربة عميق مع الممارسة السياسية. ” أحزاب الإدارة أو أحزاب السلطة” ليست مجرد كلام من فراغ. و هذا المشهد لا يعفي الأحزاب الوطنية، التي ولدت في خضم تاريخ صراعات سياسية و ايديولوجية بدأ منذ أن عبر المغاربة عن رفضهم لدخول المستعمر، من نقد ذاتي رغم قوة الضربات التي تلقتها خلال العقود الأخيرة.
حزب الأصالة و المعاصرة هو جزء من مسلسل لم تجد فيه الدولة وسيلة لمواجهة معارضيها غير الانخراط في تكوين جبهات و أحزاب و ذلك بعد تجريب وسائل أخرى . لتذكير من يهمه فهم التاريخ ،وجب الرجوع إلى سنة 1963 و صنع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية التي كان شعارها محاربة الحركة الوطنية و احزابها رغم وجود بعض أعضاء حزب الشورى و القيادة الأولى للحركة الشعبية في هذه الجبهة. و تسببت مواقف هذه الأخيرة من فرض حالة الاستثناء من تشتت الجبهة المصنوعة. و بعد ذلك توالت عمليات الصنع داخل مكتب الراحل إدريس البصري و ولدت أحزاب دون طعم و لا لون و لا مشروع سياسي و لا زالت مستمرة رغم غياب حضورها و ضعف امتداداتها داخل البنيات الثقافية و الإجتماعية.
و قبل ما سمي بالربيع العربي تولى جمع من النخبة البدء في مسلسل لبس قناع ابتكار شكل جديد للديمقراطية. تجمع حول هذا “المشروع ” يساريون و يمينيون و ليبيراليون و اشتراكيون و مثقفون و “انتهازيون ” ولم يمر وقت طويل حتى خفت صوتهم. و بعدها ارتفع صوت مسؤول كبير ليدق، حسب رأيه، ناقوس خطر حول وصول اسلاميين إلى الجماعات الترابية و للبرلمان و للحكومة. و لكن جرت المياه بما لا تشتهي السفن. سهلت ممارسات انتخابية هجينة لتشويه تيار العدالة و التنمية آنذاك في زيادة تواجده في البرلمان. كل هذا و مشكل البرنامج السياسي لكافة الأحزاب ازداد ضعفا أمام رغبة النخب في الوصول إلى الكرسي و إلى ما يتيحه من امتيازات.
لا يمكن أن نقول ان أحزاب الإدارة أو أحزاب السلطة نجحت في تأطير المجتمع و لن تنجح ابدا لأن الأصل في الشيء لا ينتج نقيضه. قد يستولون على المجالس الترابية و على البرلمان و لكن دورهم في الوساطة السياسية و الإجتماعية ضعيف جدا. و لنا في حراك الحسيمة خير مثال على هذا الضعف و على الثقل الكبير الذي تحمله الجهاز الأمني لمواجهة حالات التوتر الإجتماعي. و غابت الأحزاب و الجماعات و تولى رجال الأمن تحمل عبئ الوساطة بما في ذلك المخاطرة أمام سلوكات فوضوية.
كل هذا للتذكير بأن قوة الأحزاب في مغرب اليوم لا يمكن قياسها بعدد الأصوات و المقاعد. و الكل يعرف أن المشهد الانتخابي تشوه كثيرا بفعل المال و ممارسات البلطجة التي أصبحت مباحة و أضحى معها الحياد الإداري سلبيا. و الدليل هو أن كل الحالات التي تدخل فيها المجلس الدستوري لإلغاء انتخابات كانت كلها تتعلق بحالات سجلت في شأنها أخطاء يمكن اعتبارها تنافي عدم إحترام قواعد تهم الشكل أكثر من المضمون أو ما يتعلق بالرشوة و الفساد و شراء الذمم. الأمر هنا يهم الجميع و يرتبط بممارسات غير ديمقراطية لا تتيح أية رقابة على شكل و ما يسمى ” ببيع التزكيات ” . بعض الامناء العامين يطوفون البلاد حاملين الرسائل و الطابع و لا يبقى إلا التوقيع بمقابل. غاب المناضل و حضر رجل ” المرحلة ” ذو القدرة على تعبئة الأصوات. و غاب تاريخ الحزب و حضر الأعيان بما راكموا من قيم تناقض الحداثة و الحكامة و ترسيخ دور المؤسسات.
وفي ظل هذا الواقع يمكن قراءة ما يقع حاليا في حزب الأصالة و المعاصرة. رئيس مشارك في الحكومة لكنه يحمل في داخله ضده. وهبي عبداللطيف ليس من صنف و لا من صف الذين تم استقطابهم خلال الفترة الأولى لنشأة الحزب. و حين انخرط لم يتخلى عن شخصيته و طموحاته و مصالحه. حين قبل أن يلبس زي الحزب الرسمي لم يتنكر لطموح سابق عن أنه صاحب رأي و قرار و لم يتقبل أبدا أن يكون الزعيم أقل منه تكوينا و حضورا و صوتا. حاول أن يواجه الياس العمري دون أن يصل إلى هدفه . أنتظر بعض الوقت فأعد العدة لكي تتساقط فاكهة الزعامة بين يديه بعد أن اينعت.
و هكذا غادرت قيادة الأصالة و المعاصرة شمال المغرب لتستقر بين أيدي قيادات تمركزت أساسا في الجنوب و خصوصا في جهة مراكش آسفي. و لعل المتتبع للقاء الصحافي الأخير لهذا الحزب يقرأ الصورة و نوعية الخطاب. الشخصيات الخمس التي كانت في مواجهة ” نخبة الصحافيين المختارة” تبين بوضوح بنية من له التأثير في القرار الحزبي. و للعلم أن أغلب هذه الوجوه و بإستثناء عمدة مراكش، يمكن تصنيفها في عداد من لا يعرفهم الناس إلا من خلال صور بالبرلمان. وجوه لا تنتمي إلى الفريق الأول لهذا الحزب و لا إلى طينة رجال و نساء السياسة و النضال و لا يعرفها المجال الاجتماعي و السياسي يريدون الدفاع عن زعيمهم. وهبي لا يحتاج إلى دفاعهم و هو المحامي الذي تمرس على أساليب الدفاع. و سيظل سيد نفسه و لا يهمه أن يتناقض مع قول سابق أو موقف سابق أو دفاع عن مبدأ حين كان في المعارضة أو حتى حين كان يقود معركة حزبه الانتخابية. وهبي لا يهمه أن يصل حزبه إلى المرتبة الأولى كما تمنى و أكد ذلك رئيس الفريق برلمانيه بالغرفة الأولى و المعلم السابق بمراكش. وهبي يعرف وزن رجال و نساء حزبه و لكنه لن يحاسب أحدا منهم و لذلك تركهم يواجهون الصحافة لوحدهم. و لكل ما سبق، يجب التفكير بجد في قدرة من يدافعون عن وهبي على التأثير على مكونات خارطة حزبهم الحقيقية و التحولات التي عرفتها و سوف تعرفها مستقبلا.
سألت اليأس العمري خلال إحدى اللقاءات الإذاعية عن غياب أية أرضية سياسية معروفة لحزبه فسكت لبعض الوقت و سألني إن كان سؤالي نوعا من الاستفزاز الإيجابي. لم اجبه. و حين زادت اسئلتي، التي اعتبرها مستفزة، تغيرت نبرته و قال لي، تعالى اجلس مكاني لتجيب على الأسئلة. هكذا هي صورة من يجد حرجا في الدفاع عن حزب يتناقض مع خطابه الأصلي و” مواقفه” السابقة. كان الله في عون من استفاد و شعر بنوع من عتاب النفس ” الامارة بالسوء ” و النفس ” اللوامة “. لا حزب يمكن أن يؤكد اليوم و في ظل ما نعيشه من تدهور للقوة الشرائية و ضعف الخدمات الصحية و الإجتماعية أن له القدرة على التنبؤ بقبوله كحزب أول بعد ثلاث سنوات. و من تواضع لله رفعه إن عمل عملا صالحا و لم يكون ثروة لمجرد تحمله مسؤولية عمومية. أحزابنا التي لا تحاسب منتخبيها مصرة على الضغط من أجل محاسبة كل الإدارات و المؤسسات و الأحياء و حتى الأموات. حزب الأصالة و المعاصرة يعيش فترة عصيبة داخليا تعبر عنها رسالة الرؤساء السابقون الذين ” لا ينطقون عن الهوى” بالمفهوم السياسي لأن الرسالة لم تكتب دون مشورة و تشاور. أما الكلام عن عدم وجود مؤسسة الرئاسة فهي مغامرة برصيد فعلي لا زال لديه الكثير من الوزن و التأثير. بقي السؤال حول تأثير كل هذا على حلفاء هذا الحزب في الأغلبية. هناك صمت رهيب و ذو طابع تكتيكي و سياسي. صمت يتجنب أن تتحول خطابات وهبي و خرجاته و حريته اللامحدودة إلى عامل اضعاف للجميع. و لكن للصبر حدود و للانضباط قواعد و للسياسة مواعد مع القرار بالاستمرار بشروط أو بالانفصال في غيابها.