سـعـد سـرحـان
تكاد الأقسام التحضيرية في المغرب أن تكون بمثابة السدود. فإذا كان الاكتفاء الذاتي من الماء يضمن الحياة للبلد، فإن نسبة المهندسين في المجتمع تعكس درجة انخراطه في دينامية الحياة المعاصرة بما تتطلبه من كفاءات في مختلف المجالات. ولعل فطنة الراحل الحسن الثاني قد أدركت هذا الأمر في وقت مبكر، فجنّبت مياهنا الحلوة أن تنتهي نهاية مالحة، مثلما جنّبت المتفوّقين من أبناء المغاربة، خصوصا الفقراء منهم، أن يطرقوا أبواباً أصغر من أكفهم. لذلك، لا يختلف في رأينا تدشين سدّ هنا عن فتح أقسام تحضيرية هناك. وكما أن السدود تحتاج إلى صيانة ومدّ شبكات للرّي، فإن الأقسام التحضيرية ما كان لها أن تتكاثر لولا إحداث سلك التبريز.. تلك الماركة المسجّلة باسم فرنسا، والتي انبرى لها المغاربة من مختلف التخصّصات فنالها منهم ما يكفي للنهوض بالعملية التربوية ليس في الأقسام التحضيرية فقط، بل وفي الثانويات ومراكز التكوين.. حتى أن الوزير الأول الأسبق إدريس جطو، لفرط ثقته أو تفاؤله، وعد المستثمرين الأجانب بعشرة آلاف مهندس في السنة.. وهو رقم يظل مخجلا حتى لو تحقّق، فإسرائيل على سبيل النكاية تُكوِّن 135 مهندسا من أصل كل عشرة ألاف نسمة، الشيء الذي يعني أن كلّ مليون إسرائيلي يعطي من المهندسين أكثر مما يعطي 35 مليون مغربي. وبالرغم من بطء هذه العجلة، فهي لا تعدم من يضع فيها عصاه، تلك التي له فيها مآرب أخرى. فالأساتذة المبرّزون ليسوا ملّة واحدة، وإنما هم سبعون شيعة ونيف. فهنالك أساتذة مبرّزون، نسبة إلى الذهب الإبريز، استطاعوا أن يكونوا علامات فارقة في أسرة التدريس وذلك بانخراطهم في التأليف والترجمة والبحث وإنشاء المواقع الإلكترونية ووضعها رهن إشارة الطلبة وتوجيه هؤلاء والسهر على تطوير مستواهم كما لو أنهم يرون في طلبتهم ماضيهم الشخصي المضيء. وهناك مبرّزون، نسبة إلى التبريز، استطاعوا بفضل تكوينهم الصلب وانخراطهم الجدي في المهنة أن يكونوا مصدر إشعاع في محيطهم. وهنالك أساتذة مبززون، نسبة إلى الابتزاز، والتلاميذ بالنسبة إلى هؤلاء ليسوا سوى رهائن لا يتم إطلاق سراحهم بنجاح إلا بعد أن يدفع ذووهم الفدية كل شهر وبأشكال مقنّعة.. وبفضل هذا الريع صار بعضهم من رجال الأعمال وأصحاب الضيعات والأرصدة الدسمة.. بل إن منهم من أضحى وليّا للنِّعم يرفل في الولاء. وكما أن هنالك من حصل على التبريز في الابتزاز فثمة من حصل عليه في الفظاظة، فتجده يتصرف في الفصل كما الثور في معرض الخزف. وهنالك مبرزون في الانغلاق، فتجد الواحد منهم ممتلئا بنفسه عن آخره تماماً كالبيضة المسلوقة. وهناك مبرزون في التمييز كذلك الذي يسأل فلانة كم شارك في المسيرة الخضراء ثم يسأل علاناً عن أسمائهم وكل ذلك في شفوي مختلفٍ حوله وموضوع إضراب، ولا يعمد إليه صاحبنا إلا كصندوق أسود لإثراء هذه وإفلاس ذاك. وهناك مبرزون في السلطة متعطشون لها، فتجد الواحد منهم إذا عطس ينتظر أن يصاب العالم بالزكام. وثمة المبرزون في الانتهازية، ومثل هؤلاء كمثل من لا يتورّع عن تلويث سدٍّ كاملٍ من أجل تصريف ماء بركته الآسنة.إن الأقسام التحضيرية في المغرب تعجّ بكل هذه الأصناف وطلبتُها يستفيدون من ألمعية بعضهم مثلما يعانون من سادية ومزاجية آخرين، وغالبا ما يجدون أنفسهم تحت طائلة قوانين مثقلة بالواجبات وتكاد تخلو من الحقوق.. وهي بذلك لا تحترم ريعانهم وذكاءهم المتوقد. فأمثال طلبة الأقسام التحضيرية في أصقاع أخرى هم الذين أنشأوا محرك البحث غوغل والموقع الاجتماعي فيسبوك الذي أحدث ثورة في التواصل وثورات في الساحة العربية لم تنقطع بعد. فشباب 20 فبراير اندلعوا من الفيسبوك شرارة ثورة غير مسبوقة في المغرب. وبفضل جسارتهم (الجسارة وليس الضسارة كما يحب أن يردّد بعضهم) صار للشارع المغربي صوت مسموع.. وهو الصوت الذي استقبله الملك بفضيلتي الإصغاء والتجاوب. لذلك على بعض الأساتذة أن يتحلّوا بالتواضع ويتعلموا من تلاميذهم، فالماضي تلميذ المستقبل. ولنا فقط أن نلاحظ كيف أن الملف المطلبي للمبرزين ظلّ يراوح مكانه لأزيد من عشرين سنة، أي منذ ما قبل ولادة طلبتهم في الأقسام التحضيرية والثانويات.. وها هو (الملف) يعرف طريقه إلى الحل بفضل الانفراجات الكثيرة التي أعقبت 20 فبراير التي قادها هؤلاء الطلبة والتلاميذ الجسورون وليس الضاسرون.إن الأساتذة المبرزين وطلبتهم في الأقسام التحضيرية يشتركون معظمهم في خاصيتين على الأقل: التفوق والطبقة الاجتماعية، ومع ذلك تجد بعض الأساتذة من حملة الأسماء الكالحة يقطعون الطريق على بعض الطلبة من حملة الأسماء الكادحة فلا تعرف ما إذا كانوا ينتقمون من ماضيهم أم ينتقمون له، خصوصا وهم لا يكفّون عن التذمر من حظوة بعض الأسماء التي تسيطر على المناصب اللامعة.يتحدث يوجين يونيسكوعن ذيلٍ صغيرٍ يبدو من ثقبٍ في جدار وحين نوسع الثقب أو نهدم الجدار نجد أنفسنا أمام فيل. فلنقل إن هذه الورقة عن الذيل، أما الفيل فلنا حولَه ملفٌ بضخامته.