على مدى السنوات العشرين الماضية، لم أعد إلى المغرب إلا بشكل متقطع لزيارة عائلتي وأصدقائي. أنا أعيش هنا اليوم دون حد زمني، إلى أن ينتهي وباء فيروس كورونا.
وبالتالي، فهذه فرصة كي ألاحظ عن كثب آثار الوباء على بلدي الأصلي كمغربي فخور ببلده، ولكن أيضاً كمتخصص في العلوم السياسية، يدقق في ردود فعل الدولة – ويحاول تحليل ما يمكن أن ينشأ عن هذه الأزمة من ديناميكيات اجتماعية جديدة.
لقد وُصفت تدابير العزل الصحي التي فرضتها السلطات المغربية رسمياً بأنها نموذج للتفاعل مع الأزمة. وعلى الرغم من نقص التحاليل المخبرية وعدم ترحيل المغاربة العالقين في الخارج إلى وطنهم، فقد تم توفير موارد هائلة للمستشفيات وتم تعبئة ميزانيات كبيرة لدعم الاقتصاد. أما القوات العسكرية وقوات الأمن فقد طبقت سياسات صارمة للحجر الصحي. وعلى الرغم من أن معدلات الإصابة هي من بين أعلى المعدلات في أفريقيا، فإن الوفيات الناجمة عن الإصابة بفيروس COVID-19 لا تزال منخفضة نسبياً، وهو واقع يمكن لجميع المغاربة أن يعتزوا به.
ومع ذلك، فإن هذه الاستجابة السريعة تخفي وراءها واقعا مقلقا. لقد تدخلت الدولة بسرعة لمحاصرة الوباء لأنها لم تجد خيارا آخر ، لا سيما بسبب التأخير الحاصل في القطاعات الرئيسية مثل التعليم والشغل، وهو نتيجة مباشرة للنموذج الاقتصادي النيوليبرالي الجامح الذي اعتمده المخططون الوطنيون على مدى عقدين من الزمن، على حساب التنمية الاجتماعية الحقيقية. أما القطاع الصحي فهو لا يستطيع استيعاب ولو زيادة طفيفة في حالات الاستشفاء وحجم الوفيات. وخلاصة القول إن استجابة المغرب كانت فعالة بالمقارنة مع موارده ولكن دون المستوى بالنظر إلى إمكانياته.
لماذا هو واقع مقلق؟ لأن التنبؤات العلمية تتوقع موجة ثانية من الأوبئة خلال فصل الشتاء المقبل ، ولكن أيضا لأننا في المستقبل سنرى الـمزيد من التهديدات الوجودية من هذا النوع. وسيزيد تغير المناخ من تفاقم هذه الأخطار. ومن المتوقع أن تظل قطاعات كاملة من الاقتصاد المغربي في أزمة في المستقبل القريب. ويعمل جزء كبير من القوة العاملة في البلد في القطاع غير الرسمي، وهو نتيجة لنهج النيوليبرالية غير المقيدة، التي لم تسفر عن أي أثر إيجابي بسبب غياب سيادة القانون. وبدون انخفاض كبير في حجم الفوارق الاجتماعية لن تنفع العلاجات الفعالة لفيروس كورونا بالنسبة لغالبية السكان. نحن المغاربة ما علينا إلا أن نلاحظ ما حدث في منطقة الريف – في هذه المنطقة، أنتجت أوجه القصور المتراكمة ثورة اجتماعية – لنلمح الأحداث الخطيرة التي تنتظرنا.
وفي سياق هذه الأزمة، وضع العديد من المغاربة مظالـمهم ومطالبهم جانباً وعززوا ثقتهم في الدولة. من الناحية السياسية، لا يعيش المغاربة في سياق من الاستقطاب الشديد مثل غيرهم من مواطني المغرب الكبير. بالتأكيد، ليس لدى المغرب نظام شبيه بالنظام الديمقراطي في تونس، حيث تحافظ المؤسسات الانتخابية على الاستقرار . لكنه لا يعرف الانقسامات العميقة في الجزائر، حيث كشفت حركة الحراك، وهي حركة احتجاج شعبية، العام الماضي عن تآكل شرعية السلطة العسكرية وواجهتها المدنية و من المؤكد أن البنية السياسية الجزائرية ستكون أكثر تصدعاً بعد الوباء.
المغرب يوجد في وضعية وسطى : على عكس تونس، حيث تعمل المؤسسات الديمقراطية على استيعاب الأزمة و التحكم فيها ،لا تستطيع الدولة المغربية إلا أن تتجاهلها مؤقتاً وتأخير لحظة المواجهة الحقيقية، لا يشكو الحقل السياسي المغربي من الانقسامات الحادة ويرجع ذلك جزئياً إلى دور الملكية في توحيد الرؤى والاختيارات وهو ما يوفر فرصة للمغاربة لتصور مستقبل يمكن فيه تحسين الحكامة، حيث يمكن تجاوز أوجه القصور السابقة والسماح لنا بأن نكون مستعدين بشكل أفضل للتهديدات القادمة. وهذا ليس بديلاً عن التعددية السياسية الحقيقية، ولكنه يمكن أن يسهل بروزها.
في الآونة الأخيرة، أعلن الملك محمد السادس عن فشل نموذج التنمية الاقتصادية الحالي ومن ثم لدينا الآن فرصة لتجاوز هذا الفشل، عملا المثل الصيني القائل بأن كل أزمة تصاحبها فرصة ويجب أن نستعد لامتحانات جديدة في أعقاب الوباء، وهي التي ستكون مستدامة مع مرور الوقت. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن التحويلات المالية من الخارج، التي طالما كانت مورداً حيوياً للاقتصاد، ستنخفض، لأن المغاربة القاطنين في الخارج سيحتفظون على الأرجح بأموالهم ، وسيستغرق انتعاش قطاع السياحة سنوات عديدة. لكن المغرب يمكنه أيضا ً الاستفادة من الاضطرابات في سلسلة التوريد الدولية للانفتاح على أساليب إنتاج جديدة ولذلك يجب أن يصبح الاكتفاء الذاتي والإنفاق الاجتماعي من أولويات السياسات الوطنية .
وفي هذا السياق، من الأهمية بمكان عدم الاكتفاء بالتخلص من النموذج النيو ليبرالي الجديد واستبداله بمخطط ملكي جاهز ، فالمسألة ليست مجرد تقييم للأفكار التي تنبني عليها التنمية الوطنية، بل يجب التركيز على العملية التي تجعل هذه الأفكار حقيقة واقعة. إن لحظات القطيعة التاريخية الكبرى التي تسمح بمثل هذا الاستبطان نادرة في المغرب. لقد أتيحت لنا فرصة بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني في عام 1999. وجاءت فرصة ثانية مع الربيع العربي في عام 2011 وها نحن نشهد اليوم فرصة جديدةً، يمكن أن تسمح للمجتمع المغربي بأسره أن يلتقط أنفاسه بعد كل تلك الصدمات والإحباطات ويستجمع قوته للوثوب إلى الأمام.
ولن تكون هذه العملية سهلة بعد أن فقد العديد من المغاربة كل الثقة في العمل السياسي بسبب تراكم الوعود الإصلاحية التي فشلت ، إن زخم الربيع العربي، الذي فرض الحق في التعبير والحق في الكرامة سيظل حاضرا أكثر من أي وقت مضى. وبالتالي، لا يمكن صياغة مبادرات اقتصادية واجتماعية جديدة بدون التشاور الوثيق مع المجتمع، من خلال مداولات شاملة تعزز المشاركة بدلا من فرض القرارات من الأعلى.
يجب على الدولة أن تتجنب الاستسلام للإغراء المتمثل في تشجيع الوطنية الزائفة أو تعزيز طبيعتها الاستبدادية من خلال تحويل الوباء إلى قضية أمنية. فضلاً عن ذلك فإن تكنولوجيات المراقبة المستخدمة لضمان المسافة الاجتماعية لا ينبغي استغلالها لقمع التعبئة السياسية، كما هو الحال في روسيا والصين. فقد افترض الكثيرون خطأً أن الأنظمة الاستبدادية أفضل استعدادا للتعامل مع الأزمة الحالية من خلال مقارنة الصين بالولايات المتحدة. هذه مقارنة زائفة . فلكل مثال على إدارة الأزمات على الطريقة الصينية، هناك ديمقراطيات مزدهرة مثل كوريا الجنوبية وتايوان أدارت الأزمة بشكل أفضل، من خلال التنسيق الوثيق بين الدولة والمجتمع وليس من خلال الاعتماد على الجيش أو الشرطة، بل من خلال ثقة المواطنين وشفافيتهم والتزامهم.
باختصار، لدينا في المغرب فرصة تاريخية أخرى ولا يجب أن نضيعها.