آخر الأخبار

الإساءة والإحسان في حق من حكم مراكش-6-

– تتمةحلقة- ظهور عبد الله بن ياسين

ذاعت شهرة هذا الرجل في جميع بقاع البلاد ، وعرف عند الناس بالصلاح والاستقامة والزهد ، فكثر أتباعه حتى أصبحوا يشكلون قوة قادرة على السيطرة على البلاد بأكملها . وكان من أتباعه من يحسن ركوب الخيل وفنون الحرب ، وكانوا كلهم يتفانون في حبه وتعظيمه ويتسابقون في تنفيذ أوامره ، فلما رأى منهم ما رأى من إقبال وحرص على تنفيذ أوامره ، اجتمع بیحیی بن إبراهيم وتشاورا في الأمر ، واتخذا قرارة باستدعاء الطلبة وآبائهم وأغلبية سكان كدالة والمتونة إلى جمع عام . وخاطبهم فيه قائلا بعد أن حمد الله عز وجل بما هو أهل له وزاده في شكره وتعظيمه وأثنى على نبي الرحمة الذي أدى الرسالة بأمانة ونصح الأمة تم توجه للحضور فقال : « أذكركم بتقوى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبغي ، والتمسك بشرع الله تعالى والجهاد في سبيله واعلموا أيها الناس إن معنا وفينا وبجوارنا أقواما لا يطبقون شرع الله وسنة نبيه وفي هذه الحال يحتم علينا ديننا الحنيف أن نردهم عما هم فيه بالحسنى فإن أبوا حاربناهم بحد السيف حتى يرجعوا عما هم فيه » . وفي هذه الخطبة أطلق عليهم اسم المرابطين وكان ذلك سنة 434 في أواخر شهر صفر الموافق لسنة 1046 م وكون هو و يحيى وبعض رؤساء العشائر جمعا مصغرا اتفقوا فيه على تكوين وفود وإرسالها للقبائل المغربية التي تسكن في المناطق المجاورة والتي لا تطبق شرع الله ، تأمرهم بما أنزل الله في كتابه ، وتلزمهم بتطبيق شرعه في الأحكام والمعاملات وكل ما يتعلق بالحياة . فبدأ بقبيلة كدالة فنهى القوم عما هم فيه ، فلم ينتهوا وخاطبهم بالحسنى فلم يستجيبوا ، فحكم فيهم السيف ، وكانت بينه وبينهم وقائع مشهودة ، كان النصر فيها العبد بن ياسين ، فأسلموا إسلاما جديدا على يديه وحسنت أحوالهم ، ثم انتقلت الوفود إلى قبيلة لمتونة ، وكانت قبيلة كبيرة مترامية الأطراف ، بعضها آمن وصدق ، وكثير منهم بقي على ضلال : فخطب فيهم عبد بن ياسين ووعظهم وذكرهم بفرائض الإسلام وطلب منهم الإقلاع الله ، وخوفهم من النار ، ورغبهم في الجنة ونعيمها فلم يستجيبوا ، وسكنوا مساكن الذين ظلموا ، فلم ير بدا من تحكيم السيف فيهم حتى أظهره الله عليهم ورجعوا إلى الإسلام والتزموا بقواعده وسننه ، وحسن إسلامهم ، ثم اتجه إلى قبيلة مسوفة وكانوا لم يؤمنوا بعد فحاربهم حتى الصاعوا له وبايعوه على السمع والطاعة ، والوقوف عند الشرع والالتزام بتعاليمه ، فاستقام أمر الرجل ، وشاع ذكره في جميع ربوع البلاد ، وأتنه القبائل من كل صوب لتجديد شأن دينها على ضوء المبادئ الإسلامية الصحيحة . وقد غنم من هذه الوقائع مغائم كثيرة ، فأسس بيتا للمال ، وجعل عليه أمينا ، ثم تكلف يحيي بن إبراهيم بتأسيس جيش منظم تنظيما محكما ومجهزة تجهيزا متطورا يناسب متطلبات عصره . وفي نفس السنة أي سنة 1434 1046 م التحق بالرفيق الأعلى يحي بن إبراهيم الكدالي ، وكان لوفاته وقع كبير على مسيرة عبد الله بن ياسين بحيث كان هو سيد القوم ، وهو الأمر والناهي وكان يشرف على تسيير أمور هذه الدولة الفتية ، والنظر في كل ما يتعلق بشؤونها المعاشية ، وعاداتها وتقاليدها ، وأما عبد الله فقد كان يصدر الفتاوي الشرعية في كل ما يتعلق بما يريد أن يتخذه يحيي من قرارات حتى لا يكون هناك تباين ولا تعارض مع ما سنه الشرع . فكان عبد الله بن ياسين هذا أحكامه على ما جاء في القرآن العظيم والسنة الصحيحة المطهرة ، ولا ريب في أن كل من بني أحكامه على هذا النهج القويم قد سلك طريقا يؤدي إلى الفلاح والنجاح ، لأن هذا القرآن العظيم أنزله الله الهداية الخلق وإرشادهم ولأنه في كل وقت وزمان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها ، قال الله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ( الإسراء . الآية : 9 ) ، ولأن هذه الدولة اختارت أن تسلك هذا الطريق عند قيامها فتكفلها الله عز وجل وأغدق عليها عطاءه وحرسها بعنايته ، وكنفها برعايته وحمايته . ومن يتوكل على الله يتولاه ويرزقه من حيث لا يحتسب . وبفضل هذا التوكل وهذا السلوك الصحيح قامت هذه الدولة الرشيدة وذاع صيتها حتى ملأ الدنيا بأسرها . نعود لنقول : ” لما انتهى عبد الله بن ياسين من مراسم دفن يحيى بن إبراهيم جمع قبائل صنهاجة وكانت قبيلة المتونة أكثرهم تمسكا بالإسلام ومبادئه ولهذا كان ابن ياسين يفضلهم عن غيرهم ، فخطب في الجمع قائلا : ” أيها الناس أذكركم ونفسي بتقوى الله واعلموا أن هذه الدنيا سريعة الزوال وكل من عليها ذاهب إلى فناء فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ” . فأمرهم باختيار من يقوم مكان يحيى بن إبراهيم المتوفي . فوقع الاختيار على یحیی بن عمر الكدالي من طرف شيوخ القبائل ، و أسند ليحيى بن عمر جميع أمور الجيش والحرب وأمور الدولة المعاشية بشرط ألا ينفرد بقرار وألا يتخذ أمرا على انفراد بدون أن يرجع إلى عبد الله بن ياسين ليأخذ عنه الفتوى الشرعية التي تتناسب مع ما أزمع القيام به.