إدريس الأندلسي
الدولة القوية و المنصفة هي التي ترجع الحقوق إلى أهلها و تميط الغطاء عن الظلم الذي طال بعضا ، ممن نسميهم، بخدامها. و هؤلاء ليسوا مجرد مأمورين يعادون القانون و المساطر و حقوق الإنسان كما هو سائد لدى فئة تجهل الكثير عن الجهود التي يتطلبها تدبير الشأن العام. خدام الدولة مفهوم له عمق تاريخي، يصف من تقلدوا مناصب كبيرة ، و قد يكونوا ممن أدوا مهامهم بصدق و إخلاص و تفان و تضحيات كبيرة على حساب صحتهم و أسرهمض. لكن هذه الصفة تتبعها، في الغالب، صفة المستفيد من الريع و الرشوة و مراكمة الثروات. و لهذا وجب القول أن هناك كثير ممن خدموا الدولة لم يستفيدوا من أي ريع. و تجب الإشارة إلى أن بعض خدام الدولة تعرضوا للكثير من المضايقات لأنهم أرادوا أن يقدموا خدماتهم في إطار القانون فاصطدموا بواقع مرير . و لقد سجل التاريخ المعاصر لبلادنا خطوات في مجال الإنصاف و المصالحة مع تاريخها القمعي منذ 1958 . و لكن الأمر اقتصر على ملفات تهم الاعتقالات السياسية و على ضحايا فترة وصفت بسنوات الرصاص. و هناك ضحايا من نوع آخر تكبدوا الكثير من المعاناة غادروا من قسوتها هذه الدنيا أو ظلوا يقاسون من رهبتها و ظلمتها.
عشنا فترة سميت ،ظلما ،بحملة من أجل محاربة الفساد. سهر على هذه العملية الداهسة الراحل إدريس البصري. تم اعتقال أرباب مقاولات و تجار و مسؤولين في الجمارك. و جاءت فترة أخرى بعد مغادرة البصري للمسؤولية لتطال يد المساءلة مسؤولين في مؤسسات مالية و بنكية. تمت الاعتقالات و تدمرت نفسية الكثير من المسؤولين ،و أدت بهم هذه حالة إلى دخول الدمار الصحي و الإجتماعي. كثير منهم قضوا مدة كبيرة في السجن قبل أن يتم الإفراج عنهم و تبرئتهم . و لم يتم إنصافهم ،كما تم إنصاف جل ضحايا سنوات الرصاص. و بعض منهم قضوا مدة سجنية و استطاعوا النهوض من جديد لمتابعة انشطتهم الإقتصادية. و لكن بعض خدام الدولة لم يستطيعوا مواجهة أزماتهم الصحية الناتجة عن شعورهم بالظلم و الإحباط.
أتذكر بعضهم و هم اليوم بين يدي منصف المخلوقات. أتذكر زميلين من أعضاء المفتشية العامة للمالية كانا من الاطر العليا في مجال تمويل السكن و الفنادق و تدبير مكتب الصرف و الجمارك. أتذكر الراحل عثمان السليماني، كاتب الدولة السابق، و رئيس جامعة كرة القدم السابق ، و الوحيد الذي عاش تتويج المغرب بكأس أفريقيا سنة 1976 ، و رئيس القرض العقاري و السياحي السابق ، و والد ليلى السليماني التي سطع نجمها في دنيا الإبداع الأدبي و التي حازت على جائزة الكونغور الفرنسية. أتذكر رجوعه ” منكسرا ” إلى مكاتب المفتشية العامة للمالية و حاملا معه تنكر بعض الزملاء لخبرته الطويلة. احترمه الكثير من زملاءه الذين يعرفون نقاء ذمته و عنفه في الدفاع عن الحكامة الجيدة. تسلل المرض إلى جسمه المنهك بثقل نفس لم تنل حظها من الإعتراف. رحل و ظلت ذكراه محفورة في تاريخ تدبير وزارة المالية. أفرج عنه بكفالة مالية و رفع دعوى ضد وزير العدل في سنة 2002 . رحل و الكثير ممن يعرفونه يذكرون أنه لم يتحمل ما تعرض له.
أتذكر المفتش الراحل علي عمور الذي تولى مهام كبيرة من ضمنها مكتب الصرف و إدارة الجمارك. لم يكن ممن يحبون إرضاء الغير خلال أداء مهامه. أتذكر كيف دافع عن ضرورة صيانة الموجودات من العملات الصعبة خلال سنة 1984 . لم يكن مسموحا، آنذاك إخراج أكثر من 100 درهم للسفر خارج الوطن. طالته يد إدريس البصري سنة 1996 و خضع لسطوة إنتقام لم يتمكن من الصمود أمامها. رضي بالقضاء و القدر و لكن جسمه لم يتحمل ضغط الأقدار و تغييب القانون و رحل في صمت بعد أن أدى مهامه بكثير من الصرامة و العفة. و هكذا رضي كثير ممن قاموا بواجبهم و اصطدموا بعنف من كانوا أقوى من إرادة الإصلاح ، أعرف جراح البعض منهم و الذين تجاوزوا محنا و تمت تبرئتهم من طرف قضاة يعرفون خبايا التدبير المالي العمومي . أسوق بعض الأمثلة عن أبناء الوطن الذين يجب أن يرد الاعتبار المعنوي لهم و لعائلاتهم و غيرهم كثير. و من المؤسف أن جمعيات حقوق الإنسان لا تتابع حالات خدام الدولة المخلصين و لا تركز إلا من وصل أمره إلى القضاء لينال الجزاء الواجب. و الأمر لا زال يكبر في هذا الزمن، حيث تبنى المتارس الحزبية للدفاع عن ” المناضلين” و لو ثبت في حقهم اخلال بالواجب نحو مؤسسات الوطن و حقوق المواطنين . قال ملك البلاد للجميع أن البلاد و مؤسساتها ، و خصوصا سياسيوها، يجب أن يخضعوا لميثاق أخلاقي. و رغم الآثار السلبية للتستر على أخطاء المسؤولين المنتخبين، يظل الخطاب الحزبي يمطط جملا طويلة و غير مفيدة حول قرينة البراءة ، و لو بعض صدور أحكام قضائية استئنافية منذ سنوات طويلة . الأمل في إنصاف المظلومين كبير و لكن المحاسبة تظل ضمانة كبرى لحماية مؤسسات وطننا و لتقوية الإلتزام بالصالح العام لدى الجيل الجديد من المسؤولين.