يتطلب الاقتصاد الوطني في هذه المرحلة خطة محكمة لتجاوز اثارالتوقف الناتج عن الطوارئ الصحية داخليا واغلاق الحدود وتراجع المبادلات خارجيا في الشهور الماضية من جهة والمشاكل التي ستنتج عن تراجع النمو العالمي والطلب الخارجي الموجه للمنتجات والخدمات المغربية، وعن حالة اللايقين التي ستؤثر لامحالة على سلوك مختلف الفاعلين الاقتصاديين والمستهلكين على حد سواء من جهة ثانية. واذا كان مطلوبا ترتيب دقيق للاولويات على المدى القريب وتحديد للاصلاحات الهيكلية الضرورية على المدى المتوسط كي تكون هذه الخطة محكمة وفعالة وناجعة ومولدة لنتائج قابلة للقياس، فانه مطلوب في نفس الوقت ان تحسب كلفتها بدقة وتحديد نموذج تمويلها، فالوقت ليس مناسبا للاكلات البائتة والروتين والتوقعات التي تصبح متقادمة فور صدورها، والوقت ليس مناسبا ايضا للتحجر الايديولوجي او الحسابات المصالحية الضيقة والا كان الاصطدام بالحائط بعد لاي.
وتكتسي مسالة تمويل خطة اعادة انطلاق الاقتصاد، المفروض ان تربط بين الانطلاق والتجديد بالنظر الى ان جزءا مما توقف لن يكون ممكنا احياؤه ولو صبت فيه اموال ضخمة لانه فاشل اصلا، تكتسي اهمية كبرى، بله انها محددة، وتستدعي، وعلى عكس مايروجه اقتصاديون ولوبيات مصالح، قرارات سياسية.
لقد قرر مجلس بنك المغرب، الهيئة التقريرية لبنكنا المركزي، في اجتماعه الاخير تخفيض معدل الفائدة المديري بنصف نقطة ليصل الى 1,5% وايصال الاحتياطي الاجباري للابناك الى الصفر، وذلك بهدف تخفيض كلفة القروض للاقتصاد والاسر، في حال مااذا قامت الابناك بتفعيله لفائدتهم على المدى القصير ولم تقتصر على تفعيله فيما بينها وحسب، ولتوفير سيولة بنكية اضافية، كما قرر المجلس الاستمرار في تفعيل بعض الممارسات غير المعتادة non conventionnelle الكفيلة بتوفير المزيد من السيولة او مواجهة نقصها بالاحرى (شراء سندات الخزينة، والمقاولات الصغرى والمتوسطة والاصغر، وطلبات العروض لمدد تتجاوز 7 ايام ….الخ). وهو ما اعتبر ايجابيا من طرف الكثيرين نظرا لمعرفتهم بنهج والي بنك المغرب عبداللطيف الجواهري الذي يظل مرتبطا بهدف استهداف التضخم، رغم ان كل شئ يشير الى ان التضخم الضمني l’inflation sous jacente يتجه نحو ان يصير سالبا، وبالتالي محبطا للاقتصاد، وبمايراه حماية للنظام البنكي.
والبين ان السياسة النقدية المرنة نسبيا accommodante اذا كانت، وكما ظهر من التجربة السابقة على وباء كوفيد، قد ساهمت في التخفيف من نقص السيولة البنكية وتوزيع قروض على من يتوفرون على ضمانات اكيدة، وعلى راسها عقارات، فانها لم تدفع بالابناك الى تمويل الاقتصاد على النحو المطلوب وبفوائد تاخذ بعين الاعتبار التخفيضات المتوالية لمعدل الفائدة المديري ولا حتى مذكرة البنك المركزي بشان الخدمات المجانية، التي تم اختلاق غيرها، وبرز خلال ذلك ميل الى القبض على السيولة attrape liquidité وتوظيفها في السوق النقدية التي تراها الابناك امنة ولا تنتج عنها اي مخاطرة من شانها التاثير على نتائجها وارباحها، وهذا ماقد يتكرر ويستمر في الظروف الحالية بحدة اكبر.
ان خلاصة ماسبق يمكن تلخيصها في كون السياسة النقذية، التي تتميز بمرونة اكبر متى تم تحريرها من دوغمائية النقذوية المتجاوزة دوليا، وبالاخص مند ازمة 2008، ليس من شانها ان تاتي بحلول للمشكلة العاجلة والضاغطة المتمثلة حاليا في تمويل خطة محكمة لاعادة الانطلاقة للاقتصاد والشروع في عدد من التغييرات الهيكلية التي تفتحه على المستقبل وترفع من قدرته التنافسية وتجعله محدثا لمناصب الشغل المدرة لدخل كريم. الا اذا تم انهاء دوغمائية اخرى تحكم تلك السياسة في العشرين سنة الماضية والمتمثلة في منع بنك المغرب من تمويل الخزينة من جهة وجعل الخزينة تحصل على التمويل من السوق بنفس الشروط التي يقترض بها الفاعلو الخواص من جهة ثانية.
وقد عبر والي بنك المغرب بعد الاجتماع المنعقد في الاسبوع الفارط لمجلس هذا الاخير عن رفضه التام لعودة البنك المركزي لتمويل الخزينة، وتعبيره عن هذا الرفض لم يات ردا على راي داخلي وانما استباقا له، بعدما اتجهت الابناك المركزية في العالم الى اتباع سياسات نقذية غير اعتيادية لمواجهة الازمة الاقتصادية والاجتماعية الحالية بتناغم مع السياسات الميزانية، في اطر مقاربة نيو كينزية، واتجهت تلك التي تتصرف باستقلالية كالبنك المركزي البريطاني الى منح قروض مباشرة للخزينة لتكينها من مواجهة التحملات الضخمة التي تترتب عن قرارات الحكومة، ومنها تحمل 80% من الاجور في المقاولات والمؤسسات المتوقفة. وقد حدث هذا في بلد توجد فيه سوق مالية كبرى ومؤسسات تتوفر على ادخارات ضخمة.
والسؤال الذي يبقى مطروحا على والي بنك المغرب هو اذا كانت السيولة المتوفرة لدى الابناك غير كافية لشراء سندات الخزينة ولتوزيع القروض على المقاولات والافراد، هل نغلب الايديولوجيا والعناد على الاعتبارات المتعلقة بمصالح البلاد في هذه المرحلة؟ فالظاهر ان ميزانية الدولة مدعوة لاتباع نهج توسعي مما يمكن ان يجعل العجز الاجمالي يناهز 60 الى 100مليار درهم، بحسب سيناريوهين، وليس ممكنا فيما يبدو تمويل هذا المستوى من العجز باللجوء الى الاقتراض الخارجي او الداخلي مما قد يعرقل كل شئ ويدخل في متاهات بلا مخرج. ولذلك فالتقني اليوم يجب ان يخضع للسياسي ويجب ان يراجع قانون بنك المغرب كي يصبح ممكنا له تقديم تسبيقات قابلة للارجاع وفق اتفاق وان يتم التعامل مع استقلالية البنك المركزي بالنسبية التي يتم بها التعامل في العالم. فالابناك المركزية مؤسسات دولة اضفي عليها طابع مؤسسة محافظة، كما اسماها رئيس اقتصاديي صندوق النقذ الاسبق روكوف، لكنها ليست دولة وحدها. وفي ظرف تنشا فيه براديغمات جديدة لابد من التحرر من الدوغمائيات، وهذا لايعني اي دعوة للتهور او التصرف خارج حسابات مضبوطة حتى في ظل حالة الغموض واللايقين التي تجعل مثلا كل توقعات بنك المغرب حاليا اشبه بالتخمينات ان نقل انها اشبه بلعبة اللوطو.
محمد نجيب كومينة / الرباط