آخر الأخبار

الالعاب و الألقاب الأولمبية

سعد سرحان 

الأهداف الأولمبيّة هي تلك التي يتمّ تسجيلها مباشرة من الرُّكنيات، بغضّ النظر عن المنافسة والمناسبة، فيصير معها ذلك الرّكن القصيّ من الملعب أهمَّ من نقطة الجزاء، فيما يعتلي مسجّلوها، غالبًا، بّوديومًا مُضيئًا في الذّاكرة.

أمّا الألقاب الأولمبية فدونها باقي الألقاب، فكم من بطل للعالم اعتزل وفي نفسه شيء منها، ذلك أنّ البطل الأولمبي لا يتمتّع ببريق الذّهب فقط، وإنّما يحظى أيضًا بتلك الهالة من الجلال التي انحدرت إليه من آلهة الأولمب اليونان، مهد الألعاب الأولمبية، ليست فحسب أرض هرقل وآخيل ورومولوس وسواهم من أبطال الميثولوجيا، بل هي أيضًا، وأساسًا، أرض المدينة الفاضلة والمعلّم الأوّل وكتاب العناصر… ومثلما هي أرض “أَسْرَعْ، أعلى، أقوى”، أركانِ الشّعار الأولمبي الذي يستحثّ من الجسد طاقات الجسد، فهي كذلك أرض الأكاديمية والأغورا، أرض الفلسفة والسّفسطة والمُحاورات الخالدة، أرض المنطق والهندسة وسوى ذلك ممّا يخاطب من العقل أعمق تلافيفه، حتى أنّ هنالك من قدماء المؤرّخين من رأى أنّ الله خلق الكون والإغريق هندسوه.

لذلك، لا يملك المرء إلّا أن يستغرب كيف نظّم الإغريق ألعابًا أولمبيّة قبل الميلاد، في غير قليل من الرّياضات، دون أن يخطر لهم تنظيم مثيلات لها في الرياضيات، هم الذين أنجبوا أسيادها الأوائل، وكانت أكاديميتهم، الأشهر والأعرق، لا يدخلها من لا يعرف الهندسة.

مهما يكن من أمر، فالتحاق الريّاضيات بالرّكب الأولمبي تأخّر كثيرًا، إذ لم تصر لها منافسات بهذه الصّفة حتى 1959، وقد كان ذلك في رومانيا، يا للمفارقة، وليس في اليونان. وبذلك كشّر التاريخ عن عقوقه للجغرافيا، كما سيكرّر لاحقًا بتنظيم الألعاب الأولمبية لسنة 1996 بأتلانتا وليس في أثينا.

ولعلّ نظرة سريعة على قائمة المتوّجين في منافسات الأولمبياد العالمية للرياضيات، منذ دورتها الأولى حتى الآن، أن تكون ذات فائدة تُرجى. فقد استأثر الاتحاد السوفياتي والصين بحصة الأسد واللّبؤة معًا، فيما نال أشبالهما في تلك الأصقاع التي تشرق منها الشمس على غير قليل ممّا تبقّى، وكأنّ المادّة الرّمادية تركّزت في الفصّ الشّرقي من دماغ الأرض.
ولئن كانت بعض الدول تُسجّل وجودها في القائمة المضيئة مع سبق النبوغ والاجتهاد، فإنّ أخرى لا تني تسجّل عدمها في كلّ دورة. ولنا فقط أن نلاحظ الغياب المطلق لفرنسا، تلك الخالة المبجّلة، التي لا تعدم من يُشَمِّتُها هنا كلّما عطست هناك.

في مجتمع الريّاضيات، ما من بريق يعوّض ذهب الأولمبياد الدولية سوى بريق ميدالية فيلدز التي تسلم، مرّة كلّ أربع سنوات، لعلماء الرياضيات دون الأربعين. وهي بمثابة تعويض عن جائزة نوبل، ذلك أن السيد ألفريد لم يوص بواحدة من جوائزه للرياضيات نِكايةً، على الأرجح، في غوستا ميتاغ لوفلير، وتلك حكاية أخرى.

وإذا كان بريق الأولمبياد الدولية وفيلدز قد خلّد من خلّد من نبغاء الرياضيات، فإنّ من بين هؤلاء من أضفى على ذلك البريق بريقًا دونه كل بريق. ولن أجد ألمع من مريم وغريغوري للتّدليل على ما أقول فمريم ميرزخاني فازت بالأولمبياد الدولية بالعلامة الكاملة وهي في مستهلّ العشرين، وعن سن السابعة والثلاثين نالت ميدالية فيلدز كأوّل وآخر امرأة تفعل منذ إحداث الجائزة سنة 1936، قبل أن ترحل في كامل مشمشها عن الأربعين سنة.

أمّا غريغوري بيرلمان فنال ذهب الأولمبياد الدّولية وهو في السّادسة عشرة من عمره، قبل أن ينال دكتوراه في الرياضيات عن سنّ الرّابعة والعشرين بتفوّق كرّسه نجمًا كلّما حلّ ضيفًا على أرقى الجامعات. أمّا في سنّ الأربعين، فقد فاز بوسام فيلدز بعد أن توصّل إلى حلّ حدسيّة بوانكاريه التي عمّرت لأكثر من مائة سنة، ما جعل جزءًا كبيرًا من المجتمع العلمي يعتبره أذكى رجل حيّ على وجه الأرض. إلّا أنّ الأدهى من ذلك كله هو أنّ عالمنا هذا غاب عن مراسيم تتويجه، مثلما رفض تسلّم مليون دولار قيمة الجائزة، مفضّلًا على ذلك التزام مقبعه والتفرّغ لحلّ معضلة رياضية أخرى.

لقد تأخّر المغرب كثيرًا في طرق هذا الباب من النّبوغ، إذ لم يشارك في الأولمبياد الدولية حتى 1987، أي بعد نحو ثلاثة عقود من دورتها الأولى، وبعد أكثر من ثلاثة عقود أخرى من التقدم الوئيد، أصبح يحتلّ الآن الرتبة الرابعة والستين دوليًّا، وهي رتبة متقدّمة جدًّا إذا ما قورنت برتبته المخجلة في التعليم.

أمّا في أولمبياد أقلّ بريقًا كالأولمبياد العربية والإفريقية، فغالبًا ما يتصدّر التلاميذ المغاربة منصّات التتويج بعد أن يسجّلوا من مختلف أركان البلاد.

لذلك فالمغرب، في هذه الساحة كما في غيرها، مدين لأنغام التميّز بالعزف المنفرد، لا بطبول هذه الجوقة أو صنوج تلك.

وعلى ذكر التّميّز، في الرياضيّات أساسا فقد خصّصتُه قبل مدّة بمادة وافية نُشرت على صفحات هسبريس عن تسميد العقول في بنجرير، ذلك الرّكن القصيّ من الملعب الذي سجل منه الشّباب، هذا العام، أهدافًا أولمبية في مرمى باريس، قوبلت بتصفيق قسري تردّد صداه على صفحات “لوفيغارو”.

وبالنّظر إلى أصول بعض أولئك الشباب وظروف نشأتهم، نقف عند مفارقة شديدة الصّراخ: كم هو نافع ذلك المغرب غير النافع.

وفي غير الرياضيات، يتألّق المغاربة هنا وهناك في مختلف المجالات، من ألعاب القوى إلى التنس، ومن تحدّي القراءة إلى نجوم العلوم… بأياد بيضاء أحيانًا، وبمجهودات فرديّة غالبًا. وقد لا يتكرّر صنيعهم الفذّ قبل مرور سنوات أو عقود حتى.
فالعيناوي والعلمي وأرازي وعويطة والكروج والمتوكل على سبيل الحنين، باتوا من أساطير الأولين، وقد لا يمرّ أمثالهم بسماء البلاد إلّا كما تفعل بعض المُذَنّبات.

ومريم أمجون، الطّفلة التي التهمت عشرات الكتب فانحلت عقدة من لسانها، لم تستطع أن تخفي غابةً من أقرانها، لا يقطعون السّطر قراءة إلّا كما يعبر الحفاة درب القتاد، ولا يتوقّفون عند ما تحته خطّ إلّا كما تتوقّف دابّة الشيخ… ولا مُجير لهم من الفاء السببيّة سوى لام الجحود.

أمّا أحمد زحلان، أحد نجوم العلوم، وهو بعْدُ طالب مهندس، فقد اضطر إلى حمل حلمه حتى الدّوحة، حيث عرض اختراعه لكشف الغلوتين الذي يعاني هو شخصيًّا من حساسيته، وهو الاختراع الذي، على أهمّيته وأصالته، فوجئت لجنة تحكيم البرنامج بزَهد تكلفته، وكأنّ ليس في المغرب أي ابن سيرين لتحقيقه.

قبل عقود كان للمغرب مخطّطات بأرقام، أشهرها المخطّط الخماسي. والآن صارت له أخرى بالألوان، أبرزها المخطّط الأخضر. وكم أتمنّى أن يصبح له مخطّط ذهبيّ قُماشةً ولونًا كما يليق بمعرض التميّز. وليس من حاضنةٍ لذلك أنسب من المدارس والجامعات.
ولنا فقط أن نتذكّر ما قدّمت الألعاب المدرسيّة للمنتخبات، وما قدّم المسرح الجامعي للخشبة والشّاشة، وما خرّجت دور الشّباب من شباب. وحتى لا أبتعد عن صلب الموضوع، أذكّر بأنّه منذ سبعينيات القرن الماضي والمدرسة المغربية تنظّم مباريات في أولمبياد الرياضيات لمستويات الثالثة إعدادي فما فوق، وقد كان الرّعاة الرّسميون للتميز دائمًا هم فقط أولئك الأساتذة الخليقون بأسمائهم.

في أكتوبر 2019، أصدرت وزارة التربية الوطنية مذكّرة حميدة يتمّ بموجبها توسيع قاعدة المشاركة في أولمبياد الرياضيات فتشمل كلّ مستويات الإعدادي وفق روزنامة محدّدة وتوجهات دقيقة.

وبغضّ النظر عن مدى انخراط المؤسسات التعليمية في هذه الدينامية الجديدة، فتلاميذ الإعدادي اجتازوا جميع المباريات المقرّرة لتلك السنة، فكانت آخرها، لحسن حظهم، قبل إغلاق المدارس بسبب كوفيد. سوى أنّ بعض المصالح المختصّة لم تتعامل مع الموضوع بنفس الجديّة التي تبدو على المذكّرة، فلا هي صحّحت أوراق المباراة النهائية، على قلّتها، ولا هي، بالتالي أعلنت النتائج على سهولة الأمر، إذ ليس كوفيد ما يحول دون ذلك، فثبَّطت هكذا العزائمَ الفَتيّة لأولئك الفِتية المتميّزين، وأعطت إشارة غير لطيفة انضافت إلى جملة من الإشارات ذات الصّلة والصّفة.
فعلى امتداد عقود من أولمبياد الرياضيات في السِّلكيْن، لا يتمّ إخبار التلاميذ المؤهّلين سوى في آخر لحظة، فيتعذّر على معظمهم الحضور لعدم ترتيب الأمور، خصوصًا وأنّ تلاميذ الهوامش مرغمون على اجتيازها في المراكز القريبة إليها، مع ما يتطلّب ذلك من نقل ولوجستيك. أمّا حين يتعلّق الأمر بالأولمبياد الوطني، فتأخُّر الإخبار يكون وخيمًا، إذ لا بدّ من الرباط وإن طال السفر.

وبخصوص المواضيع المقترحة، فهي تصدر عن رؤية واضعيها، تلك التي تتراوح بين الوضوح والضبابيّة، وقد تشطّ أحيانًا نحو عمى الأهداف، كما في حالة بعض المواضيع التي لا شكّ أنّ من وضعها كان حاطب ليل. ولئن كانت هذه النقطة بالذات تحتاج إلى ألف ليلة وليلة من الكلام المباح، فإنّني لن أتوقّف عندها، وبدل ذلك، أترك للقارئ المهتم أن يحكم بنفسه وهو يتصفّح مختلف مواضيع أولمبياد الرياضيات المغربية، فهي أوجد من حتّى في مواقع الكترونية شتى .