لست بصدد بحث انتروبولوجي ، ولا بالحكايا التي ترويها الجدات لحفدتها في ليلة ظلماء طلبا للنوم. إنما هي واقعة حقيقية تستمد أحداثها من شخصية مقالنا “باحسون “الذي فاق التوقعات ، بل أن سيرته في هذا المسار تشبه لحد بعيد ماعاشه الباشا حمو “الشارب دمو “في المروي عنه من قصص وأساطير و مايثيره إسمه من سحر الكلام ومايحمل من طلاسيم ، “باحسون ” إسم له شهرته لدرجة قد تأخذ هذه الشخصية الملتبسة مكانها من طقوس الآخر ولن تلاحظ الفرق ، يعجز اللسان عن الحكي كما تقف كل الأوصاف عن الإسترسال في ماعرفته المؤسسة في عهده. وفي هذا السياق لانستدعي هنا للنقاش الإسم الآخر الذي قد يتبادر للذهن
( فالباشا حمو بلعباس من مدينة الجديدة) و الذي لايربطه بالموضوع شيء ، ماعدا التشابه في الإسم. هو توضيح كان لابد منه ، حتى لايختلط علينا الأمر ولكي نوضح القصد من هذا المقال. يحكى والعهدة على الراوي :
أن الباشاحمو “مول اللون لحمر الشارب دمو “، انبعث من رماد المعاناة ، خلق لنفسه شريحة من المجتمع يؤمن بها عيشه ، ويحافظ على بقائها ،أصبحت تحج لموسمه الناس من كل فج عميق محملين بالهدايا، جرت الأعراف بتسميتها “المرفودة ” من أجل تنظيم ليلة الحضرة التي يستطيع بقوته الخارقة كما يعتقدجل حجاجه أنه يحضر فيها الجن ليخدمه ويطيع أوامره ، وينفذها لتلبية أماني ورغبات الزوار الذين جاءوا يرفعون آمالا عريضة مضحين بكل مايملكون، لعل تنفعهم الزيارة ، إنهم من مختلف شرائح المجتمع من علية القوم ومن التجار والفنانين والموظفين ،الفلاحين الكل. لايفوتون الفرصة لنيل البركة والكرامات. والواقع أن من يجالسونه بعيدا عن الخلوة وهم قلة مقربة منه يعرفون جيدا أنه إنسان فشل في الدراسة مستواه التعليمي متواضع لكنه أصبح بالمراس يتقن هذه الحرفة بل أصبحت مهن أخرى مرتبطة به تمتد من بائع الملابس إلى بائعة الشمع والخبز . الكل مرهون بهذا الحدث لأنه نشاط تجاري بامتياز . يكثر فيه الرواج الإقتصادي . والمستفيد الأول والأخير الباشا حمو . لايختلف”باحسون ” في منهجيته عنه، يعشق الرئاسة لحد لايمكن تصوره، يموت في الوجاهة لحد التيه، مستواه الثقافي متواضع ، يجيد المناورة أكثر من فصاحة اللسان ، تمرس من خلال تقلبه في المهام ، وهو الذي يعرف كيف يسحب من خصومه حقوقهم دون أن يرف له جفن ،يتلذذ باستعراض عضلاته على مرتاديه ،هو رجل متوسط القامة، أشعث الرأس لاتكاد ترى عينيه، رغم بعض الشيب الذي غزا معظم شعره فلازال يتمتع بحيوية الشباب وهذا الأمر يفضي لحقيقة أن الرجل لايذخر جهدا من أجل الإعتناء بصحته ولياقته رغم تقدمه في السن . يتابع بشكل دوري فحصه الطبي حيث اصبح جسده مرهونا لبعض الاقراص والحقن ، كثير من خلانه وأصدقائه المقربين منه نصحوه بالأخذ برأي الطبيب والخلود للراحة والإبتعاد عن شغب ومتاعب الشغل،لكنه أصر على البقاء ،فهو لايصرح بها علنا بل يغلفها بمفاهيم وكبسولات أخلاقية مرتبطة بمصير المؤسسة، إنها مسؤولية تستدعي مزيدا من الوقت والتريث أيضا للحفاظ عليها ووضعها في أيادي أمينة فلاضرورة للإستعجال ، نحن من أسسناها وعلى أكتافنا وقفت ،ولن نفرط فيها ، يردد هذه الجمل الروتينية وكأنها سجل عقاري كتب بإسمه ليبقى فيها خالدا. كلما أثير هذا النقاش إلا وختمه بهذه اللازمة مع تدبيجها بفقرة حتى يبعد عنه نظرات الملاحظين ، نحن نتمتع بجو الديمقراطية كخيار استراتيجي، قلما يتمتع به الغير …إنه الحسد الذي أصبح يطاردنا والعين التي تلاحقنا… ويسترسل محتكرا الكلام في ماشابه ذلك من مفردات فضفاضة لايحكمها منطق ولايسندها قانون يبالغ فيها لحد يتأفف منه الجميع ، لقد أصبح الكل مقتنعا بأن كلامه الذي يكرره هو نفسه وماهي إلا شعارات ترفع كلما اشتد النقاش ويبقى المحك الحقيقي المحطات التي يكشر فيها “باحسون” عن أنيابه فيصفي أقرب الناس إليه بلاشفقة ولارحمة ،لأنه لايطمئن لأحد ، علمته التجربة أن الإستكانة تفرز حتما الضعف وبداية الإنهيار. “باحسون ” غير مستعد للتخلي عن المكاسب التي يتلقاها مقابل بقائه في المنصب والوجاهة التي أصبح يتمتع بها ولن يفرط فيها بجرة قلم ليصبح ذات يوم نكرة ،لاقيمة له ،هكذا يعتقد وغير مستعد لهذه النهاية إنها مسألة حياة أو موت. صنع لنفسه مجموعة من المحيطين به الذين يعتبرهم في قرارة نفسه عصابة من الرعاع لاثقة فيهم ويسعى بكل ما يملك من قوة الإمعان في قهرهم واستعبادهم واستغلالهم . لذلك فهو شديد الحساسية من هذا الأمر بل إنه ينتشي فرحا كلما أطال المداحون في ذكره طلبا للإكراميات وكلام الرضا منه . ” باحسون ” يحصي الأيام ويستغلها بنهم شديد لأنه يعلم جيدا أنه لا أمان فيهم ولاثقة فقد يأتي يوما ينهون فيه مساره الملغوم . إنه نموذج يتكرر كثيرا في دواليب مؤسساتنا. فأي تشابه في هذا الأمر فهو بمحض الصدفة لاغير، لكن المؤكد أن لكل بداية نهاية.