كيف يمكن ان نربي أطفالنا في زمن التنميق والتزويق ؟؟!! والتحريف و والتزييف ؟؟والترغيب والترهيب ؟؟!!و التخدير والتفجير ؟؟!!
لا أخفيكم هوسي بهذه المسؤولية التي صارت جد صعبة ،وأحيانًا من المتمنيات المحبوبة والتي صارت صعبة التحقيق ، حتى ان البعض اصبح يفضل تربية كلب او قطة او طائر عوض ان ينخرط في تحمل هذه المسؤولية الثقيلة والمرهقة لكونها تتطلب من المؤمن بها والمنخرط فيها تكوينا وتربية سليمة ، اضافة إلى علم وحِلم ، وأناة وصبر..
ومن أين لنا بهذه المواصفات ؟؟!! وكلنا يعلم ان جيلا بكامله قد اكتوى بجمرات من العقد والعوائق النفسية والسلوكية والفكرية والعقدية خلال تربيته وتنشئته وتعليمه .. وحتى الذين صار عندهم وعي بها وأرادوا ان يستحموا من دنس ووسخ عقدهم، لم يتمكنوا من محو اثارها ومسح حدودها التي ظلت محفورة بدواخل وجدانهم وأنفسهم .
فالأب الذي تربى على حداثة مشروخة ، أطلق عنان الحرية لابنائه ، فوفر لهم كل ما يطلبون وفوق ما يتصورون فأعطاهم كل شئ حتى ضاعوا وضيعوا كل شيء .
والأم التي لم تنعم بقيم الحب والتسامح أرضعتهم التعصب والحقد والكراهية.
والوالدان اللذان عاشا الحرمان والحاجة غرسا في ذريتيهما روح النقمة والانتقام والثورة .
والذي ضاقت بصيرته واختنقت أفكاره وتظلمت مفاهيمه أرسل عنان لحيته ، وقفَّز من سرواله وفهمه ، وأتعب أبناءه بأحاديث الشجاع الاقرع ، وعذاب القبر ..وصور لهم الدنيا هلاكا وعذابا لا تستحق ان تعاش ، فنشأوا مضطربين حاقدين ناقمين على كل شيء .
ولذلك عُدَّت التربية من اصعب المهمات والمسؤوليات التي تحمل الإنسان امانتها ، فاصاب حينا وتعثر احيانا كثيرة ، واعتقد ان هامش الخطأ في تنشئة وتربية الأطفال يجب ان يكون بين الندرة والانعدام ، لاننا إن أخطأنا في تشكيل المادة فيمكن استبدالها بأخرى فمثلا ؛خياط او نجار او حداد، إذا لم يتوفق كل منهم في إعداد القطعة او الشكل المطلوب ، او أخطأ في القياسات المحددة ،فمن السهل ان يأتي بنظيرها من الثوب او الخشب او الحديد ،ويعيد التجربة مرة ومرات حتى يصل إلى العمل المرغوب فيه ، لكن مع الانسان الأمر جد مختلف وبالغ الخطورة وجسيم المسؤولية؛ لان إحداث أي خلل نفسي او فكري او سلوكي في بنية الطفل سيترتب عنه انعكاسات سلبية من الصعب علاجها دون ان تترك اثرها في نفس المعني ، وكذلك على صحة وسلامة المجتمع ككل .
ولهذا من الواجب ان نعيد النظر في محتوى وطرق منظومة التربية والتنشئة ، من خلال مسارين متوازيين ومتوازنين :
– 1- مسار الإعداد والتكوين .
– 2- مسار الإصلاح والعلاج .
1- فأما مسار الإعداد والتكوين فان المستهدف به فئتان :
الأولى : فئة المقبلين الجدد على الزواج ، وبناء أسرة ، وانجاب أطفال .
والثانية : فئة المعلمين والمدرسين المكلفين فعليا تربية وتعليم للأطفال ، خاصة في المراحل الأولية من التعليم الأساسي .
فهاتان الفئتان لابد ان يتم إعدادهما وتكوينهما من خلال دروس نظرية ،ودورات تكوينية، وبرامج اذاعية ،وأنشطة تلفزية ،ومقررات تربوية ،وزيارات ميدانية في كيفية تربية الطفل ، وطرق تنشئته على منهاج سليم ، ولابد ان يتولى التكوين والبرمجة أناس من ذوي الخبرة والتجربة والرؤية الناضجة والمتكاملة ، من أصحاب الإبداع والحس التربوي الحضاري الرفيع، والابتعاد عن المرتزقة الفارغين من كل همّ او انشغال تربوي ميداني حقيقي ، لان المثل يقول أن ( فاقد الشئ لا يعطيه ) ، وربما ان هذا الجانب هو الآخر يعد جزءا من المشكلة المطروحة ، لاننا نلاحظ ، اليوم ، ان الساحة التربوية والتعليمية صارت تضج بكثير من المتطفلين على هذا الحقل التربوي والتعليمي ، بل منهم من صار مؤلفا ومنظرا ، يستنسخ تجارب او كتبًا واعمالا منقولة ، وأحيانًا مترجمة عن مرجعيات وأيديولوجيات متطرفة في الانفتاح او الانغلاق ،مما يجعل عنصر تنزيلها على الواقع المحلي محفوفا بالانزلاق أوالسقوط أو الفشل ، وبالتالي فكل اشتغال غير مسؤول او إعداد ضعيف في هذا المجال من شأنه ان يساهم في ارتفاع أعداد ضحايا هذه الحوادث التربوية المتهورة ، مما يضيع على البلد فرصة الإنقاذ والتغيير والتطوير .
وبالعودة إلى هذه البرامج والأنشطة ، فلابد ان تتمحور على التربية الشاملة المتكاملة الجامعة بين ما هو نفسي وجسدي وفكري وقيمي وديني ، وتستهدف تحقيق الغايات السامية الكبرى وهي : تكوين أطفال اسوياء ، سعداء ، نجباء ..سيصبحون لاحقًا شبابا قادرين على تحمل المسؤولية ، وعلى البناء و العطاء الذاتي والجماعي
2-أما مسار الإصلاح والعلاج ، فيخص تتبع ضحايا التربية الهجينة ، والذين وجدوا أنفسهم في بيئة موبوءة بالنواقص والعقد المركبة والتي اكتسبوها من اباء وأمهات اكثر اضطرابا ومرضا ، وقد أشرت إلى بعض النماذج في بداية المقال، وربما ان الواقع يعج بكثير من المآسي لأ بناء شبوا على عادات وسلوكات ومعتقدات سيئة ، فتجدهم يرفعون اصواتهم في الشارع العام بألفاظ جنسية فيها قلة حياء، او يضايقون بنات جنسهم بالتحرش اللفظي والنظرات الشهوانية ، او يرمون بالازبال والنفايات على قارعة الطريق ، او يتلفون ويكسرون تجهيزات الملك العام من مصابيح ولوحات اشهارية وإشارات المرور ..او يقلقون راحة الجيران وهم يتسابقون ليلًا على متن دراجاتهم النارية مستعملين منبهات مزعجة ..
فهذه الفئة تحتاج علاجًا موضعيًا وسريعًا دون تخذير ، يتدخل فيه كل من علماء النفس والتربية والتعليم ، ورجال الامن والقانون ، ورجال الدين من الوعاظ والمرشدين . ويستعمل فيه خطوات واجراءات عملية ونوعية تشمل : النصح والتوجيه والتوعية والعلاج النفسي ،والتشجيع المادي والمعنوي دون نسيان آلية تفعيل الزجر بسلطة القانون ،لان هذه الفئات متنوعة وغير متشابهة : منها من يستحي ، ومنها من يخاف ، ومنها من فقد الحياء والخوف معًا ، وبالتالي فلكل حالة طريقة فعالة في العلاج السريع ، وتبقى الغاية من وراء هذا الانشغال و التتبع هو ان نتمكن جميعا وفي أقصى وقت ممكن من تقليص تزايد وتفاقم من مثل هذه الانحرافات والانجرافات التربوية ، خاصة وان نجاح المسار الأول ( مسار الإعداد والتكوين )مرتبط إلى حد بعيد بانجاز المسار الثاني ( مسارالاصلاح والعلاج ) ، فالأول يحتاج بيئة حاضنة يكثر فيها وجود نماذج سوية ، صالحة كي يقتدي بها النشء الصاعد، كما ان النجاح في تحقيق قدر كبير من العلاج والإصلاح حتمًا سيعين الناشئة على الانضباط والالتزام بأسس وقواعد التربية السليمة التي تلقوها من قبل .
– وفي النهاية لا يمكن الاعتقاد بان الحياة التي نتطلع اليها جميعًا قد نعيشها بنفس السهولة التي نتحدث عنها كلاما او كتابة ، بل هي اعقد من ذلك وأصعب وتتطلب مجاهدة وصبر ا وكفاحًا وعملًا ، الأمر فيها اشبه بمن يفلح أرضا وعرة ، فهو لن ينتظر الثمار في زمن قياسي سريع ، بل عليه ان يؤمن بقدرته على تحقيق الإنجاز ، وان يعلم طبيعة المكان ونوعية التربة ، وان يوجد لها الحرث والزع المناسبين ، ويتعهد ها بالسقي والمراقبة المستمرة ، مع ايمان صبر وترقب ورجاء في رب الأسباب بان يحقق المطلوب . ودون ذلك فهي مجرد كلام واحلام .
محمد خلوقي