جليل طليمات
كلما حلت ذكرى معركة أنوال بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي, ينتابني شعور بالقلق من حجم التجاهل والنكران للثورة الريفية , كأنه يراد لها أن تصبح في طي النسيان , وأن تمحى من الذاكرة الوطنية , وما يزيد هذا القلق تأججا ذلك التواطؤ الضمني على إقصائها أو الصمت عنها سواء في المجال الإعلامي بمختلف وسائله السمعية والبصرية والمكتوبة ,الرسمي منه والحزبي و”المستقل”, أو في المجال التربوي التعليمي والأكاديمي أيضا حيث تغييب حرب أو ثورة الريف في البرامج والمقررات التعليمية لمادة التاريخ , وتهميشها في البحث التأريخي , وذلك على الرغم من كونها شكلت ” أول مدرسة في الوطنية “,كما قال عنها الراحل عبد الرحيم بوعبيد , ” وثورة وطنية تحريرية غايتها تحرير المغرب من الاستعمار الأجنبي للمستعمر” حسب الزعيم الوطني علال الفاسي .
لقد بقيت ثورة الريف بقيادة بطل الريف محمد عبد الكريم الخطابي , برغم ذلك موشومة في الذاكرة الوطنية الجماعية كنموذج في المقاومة ,وفي الذاكرة الإنسانية حيث شكلت في تاريخ حركات التحرر العالمية مدرسة في حرب العصابات ,قدمت للشعوب المستعمرة دروسا في مقاومة الاستعمار, وهو ما عبر الزعيم الفيتنامي “هوشي مينه ” بقوله : ” إن الدروس المستفادة من حرب الريف قد أظهرت لنا بصفة جلية أن باستطاعة شعب صغير هزيمة جيش عصري ومنظم عندما يحمل السلاح ويدافع عن حريته وحقوقه,فالريفيون استحقوا بجدارة أن يقال عنهم إنهم أعطوا هذا الدرس للعالم أجمع ”
نعم, لقد قضى عنف التحالف الاستعماري , الفرنسي الإسباني وقواته المتفوقة عدة وعتادا على ثورة الريف ولكن “بقيت مادتها المتفتتة ترسل إشعاعها عبر تاريخ المغرب” _ كما كتب المؤرخ جرمان عياش, إذ تحولت إلى مرجع لكفا ح جيش التحرير والمقاومة بالجنوب المغربي ,ولحركات التحرر العالمية ,ومرشد للحركة الوطنية الحديثة , يقول الزعيم الوطني الديمقراطي الراحل عبد الرحيم بوعبيد في هذا السياق : “…بعد هذه المرحلة, مرحلة الجهاد المسلح التي استمرت إلى 1935, جاءت مرحلة الكفاح السياسي مستمدة قواها وعملها المتواصل من الدروس القيمة التي خلفتها ثورة الريف..” معتبرا هذه الثورة ” أكبر مدرسة للوطنية” ( ع الرحيم بوعبيد_ الشباب المغربي أمام مسؤولياته _ ص 36) , وهذا ما عكس طبيعتها كثورة وطنية تحررية ووحدوية , وكما قال محمد عبد الكريم الخطابي مؤكدا ذلك : ” لم يكن غرضنا التشويش على المخزن (… ) ولكن كان قصدنا الأهم هو الدفاع عن وطننا العزيز الذي كان أسلافنا مدافعين عنه”( انظر ملف مجلة زمان العدد 45 )
لقد تميزت ثورة الريف بوضوح الرؤية الوطنية المؤطرة لها : فلم يكن وراء مقاومة الاستعمار الإسباني أي نزوع انفصالي : فرغم تأسيسه ” جمهورية الريف” ومؤسساتها , فقد ظل الخطابي يعتبر أن تقرير المصير هو حق الشعب المغربي لا ” الشعب الريفي” , وظل لسانه ناطقا باسم طموح وتطلعا ت جميع المغاربة إلى الاستقلال ,وهذا ما كان يؤكده طيلة عشرينيات القرن الماضي وما بعدها, فقد صرح في 1925 لأحد الصحفيين بأن شروط السلام مع اسبانيا تتمثل في ” انسحاب جميع الجنود الإسبانيين من المغرب إلى حدود الأطلنطي حتى تخوم الحدود الشرقية (… ) ونحن نطالب ذلك باسم الأمة المغرية بأسرها” ( أنظر كتاب ” تنظيم الحماية بالمغرب _ خير الدين فارس _ ص 436 ).
في كتابه ” الحركات الاستقلالية بالمغرب العربي ” يلقي الزعيم الوطني علال الفاسي أضواء كاشفة عن أهداف محمد عبد الكريم الخطابي من تأسيس جمهورية الريف , يقول ” .. لم يكن تأسيس الجمهورية عدولا عن فكرة الملكية في نظر من قاموا به من زعماء الريف, ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا يستطيعون الكلام باسم ملك المغرب, الذي جعلته ظروفه القهرية في منطقة النفوذ الفرنسي. ولم يريدوا أن يسقطوا في الخطأ الذي وقع فيه الهبة ووالده ماء العينين حينما أعلنا نفسيهما ملكين , ولذا وجد الزعماء الريفيون حلا وسطا هو تأسيس نظام مؤقت يمكنهم من تنظيم الإدارة وتدريب الجمهور على أن يحكم نفسه بنفسه , ومتى تم التحرر الكامل لسائر أبناء الوطن سلموا البلاد المحررة لصاحب العرش, ولم يطالبوا بأكثر من تطبيق نظام دستوري يحقق رغبات الشعب في مراقبة أعمال الدولة والتعاون على تسييرها ” ( ص 139) .
تعمدت نقل هذا النص رغم طوله , لقيمته وقيمة كاتبه , إذ يفصح , بما لا يدع مجالا لأية تأويلات أو قراءات ل ” جمهورية خارج سياق النضال الوطني الوحدوي التحريري للمغرب من أقصاه إلى أقصاه . انطلاقا من ذلك, فإن تأسيس جمهورية الريف كان جوابا واقعيا وعقلانيا على سلبية ظاهرة التشتت القبلي, وحاجة ذاتية لمقاومة المستعمر, وبذلك حققت الجمهورية هدفها ” الانتقالي” حيث توحدت صفوف القبائل وساد النظام والقانون, ما جعلها شوكة في حلق الاستعمارين الاسباني والفرنسي, فقد أصبحت كما عبرعن ذلك ليوطي, ” نقطة جذب ليس للمستقلين فحسب , ولكن لكل تلك العناصر المغربية خصوصا الشباب الذين توسعت آفاقهم وتطورت عندهم مسألة رفض الأجانب” .
وعليه , كم تبدو متهافتة , وخاطئة , وغير بريئة ما ذهبت إليه كثير من التأويلات والتوصيفات التي ألصقت بالثورة الريفية “نزعة الانفصال وذلك في تماه مع الدعاية الاستعمارية الفرنسية التي كان هدفها آنذاك التأليب ضد ثورة عبد الكريم الخطابي, لفصلها عن سيرورة النضال الوطني من أجل الحرية والاستقلال .
واليوم , وفي ظل المعطيات الدولية والاقليمية المعقدة من الحيوي اعتبار أن المصلحة الوطنية العليا للبلادما يقتضي ، بالتالي مواصلة وتعميق مسلسل المصالحة مع منطقة الريف وذلك من خلال :
_ الإسراع في إنجاز برامج المخطط التنموي ” منارة المتوسط”, جبرا للأضرار التي لحقت بهذه المنطقة بسبب عقود من الإقصاء والتهميش, وتحقيقا للعدالة المجالية .
_ التجاوز العقلاني لمخلفات الحراك الاجتماعي الذي عرفته المنطقة دفاعا عن الحق في عدالة مجالية توفر لأهلها الشروط الحيوية للعيش بكرامة, وذلك بالا فراج عن جميع معتقلي هذا الحراك الاجتماعي الصرف, والبعيد عن أي نزعة ” هوياتية”,كما زعمت جهات لا مسؤولة بهدف التأليب على الحراك ومطالبه المشروعة . ولاشك في أن قرارا سياسيا بالا فراج عن جميع معتقلي حراك الريف سيعطي دفعة قوية لمسيرة المصالحة مع هذه المنطقة الجريحة.
_ اتخاذ مبادرات وإجراءات رمزية, كالمطالبة باستعادة رفا ت قائد الثورة الريفية ودفنه في أرض الوطن , والاحتفاء بذكرى معركة أنوال, وهي على عتبة مئويتها الأولى, كعيد وطني يتيح التصالح مع الذاكرة الوطنية المشتركة , وملء ما يعتريها من فراغات وبياضات.