محمد نجيب كومينة
هناك نقص في تحليل دخول أغنى رجل في المغرب إلى السياسة وبسط سلطته على حزب، كان وقتئذ منتهي الصلاحية périmé، وتوليه الوزارة ثم رئاسة الحكومة، هذا بينما يمثل هذا التطور في حد ذاته، وبغض النظر عن عناصر أخرى لا يتسع المجال للخوض فيها تفصيلا، تغيرا جوهريا في الحياة السياسية المغربية يستدعي أعمال أدوات تحليل لا تنحصر في حدود ما هو متداول ومكرور في سوق الجدل السياسي منذ زمن غير قصير، وبالأخص من طرف من مازالوا يقيمون اعتبارا لمسائل الانتقال الديمقراطي وإعادة توزيع المداخيل بميزان العدالة الاجتماعية.
ذلك أن دخول أخنوش إلى السياسة وارتقائه الى رئاسة الحكومة يأتي في سياق زحف النيوليبرالية واكتساحها المتواصل، منذ أن غير برنامج التقويم الهيكلي البراديغم في المغرب وجعل اختيارات الدولة تتجه بوضوح نحو دعم تركيز الثروة بين بعض الأيادي من منطلق أن ذلك التركيز يمكن من تكوين مجموعات قوية تتكفل بالاستثمار والتنمية بعدما باتت الدولة متراجعة أو عاجزة على القيام بذلك، والواضح أن هذا المنظور يستند إلى نظرية أبانت التجربة البشرية انها أكبر خدعة أيديولوجية توصل إليها العقل الرأسمالي ومفادها أن جمع الثروة من طرف البعض يترتب عليه تسربها واستفادة الجميع la théorie de ruissellement.
إن تولي أغنى اغنياء المغرب لرئاسة الحكومة وتدبير الشأن العام لا يمكن أن يحلل من منظور أخلاقي، وإن كانت للسؤال الأخلاقي مشروعية وراهنية ضمن الأسئلة الأخرى، لأن هكذا منظور يقود الى رؤية مختزلة للواقع وللتوجه النيولبيرالي الذي اشتغل في إطارها أخنوش منذ أكثر من عقد من الزمن كمسؤول حكومي وأكثر من ذلك كصاحب ثروة تضخمت بعد عملية إعادة تكوين مجموعات الأثرياء التي ترتب عنها إدماج وإقصاء، وأميل في هذه العجالة إلى التركيز على نوع القيادة leadership التي يجسدها أخنوش وأثرها العام على السياسة والاقتصاد والمجتمع، اعتبارا لارتباطه العضوي بمجمع الثروات الكبرى والمصالح الطاغية. وهنا لابد من تسجيل أن هذا النوع من القيادة يقود لا محالة إلى النظر إلى كل شيء، وإلى الشأن العام تحديدا، بمنظور سلعي رأسمالي يضع نصب العين الربح والمصالح المكتسبة والموزعة في الدائرة الضيقة لأكبر الأثرياء المعتبرين رهانا أساسيا، إن لم يكن وحيدا، للتنمية، وهو ما يترتب عليه بالضرورة إلغاء إنسانية الناس وتحويلهم إلى أرقام وعوامل إنتاج، مع التشكي من كلفتها باستمرار، أي سلع معروضة في سوق العرض والطلب، و يترتب عليه أن النظر إلى الديمقراطية والمشاركة والرقابة الشعبيين، يزيغ عن سكة الديمقراطية كما تطورت في إطار التفاعل والصراع والمنافسة الانتخابية والسياسية القائمة على احترام المواطن وتقدير الإرادة العامة في الديمقراطيات العريقة، إذ أن كل شيء هنا أصبح ذا طابع سلعي، فالأحزاب صارت تشترى والأصوات الانتخابية تشترى والنخب في البرلمان والجماعات الترابية أيضا. وفي الحكومة نسجل تطورا خطيرا أدى الى استبعاد السياسة واختيار الزبناء وبشكل قاد الى انحطاط غير مسبوق للمستوى السياسي للوزير في حكومتنا، بل وإلى ان أصبحنا نشك ما إذا كان بعض الوزراء من فصيلة الإنسان الهمو سابيانس أم من فصيلة الروبو الذي يسير بريموت كونترول. روبو ضعيف القدرات في كل شيء، مفتقد للذكاء الإنساني والصناعي، وهناك أزمات حصلت مؤخرا ماكانت لتحدث لو توفر الذكاء، ومنها الغلاء الذي “هجج” المواطنين في المدة الأخيرة.
وإذا كان البعض يدافع على تغول الثروة على السياسة والدولة بحجة الفعالية والنجاعة في التدبير، بناء على وهم أن الشأن العام يمكن أن يتحسن تدبيره بأعمال أدوات وطرق القطاع الخاص، فإنه لا بد أن ينظر الى ما حصل في تنفيذ برامج تولى أخنوش لمدة عقد من الزمن مسؤوليتها كوزير، حيث وزعت العطايا والهدايا على جزر الثراء في الميدان الفلاحي بسخاء لا حد له بينما بقي المحيط الشاسع المحيط بها غارقا في التخلف والفقر، ولم يستفد إلا من فتات الدعم المخصص للمغرب الأخضر، و بدل أن تنخفض أسعار الخضر والفواكه واللحوم بسبب التركيز على العرض نظريا، فقد ارتفعت باستمرار لتصل إلى مستوياتها الحالية، لان الفلاحة التي استفادت من الدعم، إلا في حالات، تزدري السوق الداخلية والمواطن المغربي والدرهم المغربي والدولة شجعتها على ذلك.
أما مخطط هاليوتيس، فتلك قصة أخرى يجب ان تروى، إذ أقصي الفقراء من سوق السمك المسيطر عليه من طرف المافيات الذين أنسونا أن المغرب فيه جوج بحورا و 3500 كيلومتر من السواحل وثروة سمكية هائلة باتت موجهة للخارج وللأعيان بالدرجة الأولى داخليا.
ولا بد أن ينظر هذا البعض، المتيم بحكومة غارقة في الفشل، أيضا الى تطور النظام الضريبي في اتجاه نقل العبء الضريبي الى المستهلكين والمداخيل البسيطة والمتوسطة من أجل تخفيفه على أرباح رأس المال المتغول، وبات من الواضح أن كل تحسن في الموارد الضريبية وغيرها لا يوظف لتطوير الادخار العمومي وانما لا تخاذ إجراءات ضريبية لفائدة رأس المال المستفيد من معدلات ضريبية تعتبر الأكثر انخفاضا في العالم، وبغض النظر عن إمكانيات الخصم المتاحة على نطاق واسع وعلى الغش الضريبي، ومن الواضح والعلني أن الحكومة تتخذ قراراتها وإجراءاتها الضريبية وغيرها، بل وتوجه السياسات العمومية، بناء على حوارها المستمر والجدي مع نقابة رجال المال والأعمال والنافذين داخلها، بينما “تطنز” بما تسميه حوارا اجتماعيا مع مركزيات نقابية باتت منهكة وضعيفة وغارقة في الفساد غالبا.
المال والسياسة لا يجتمعان، قالها الزعيم علال الفاسي مبكرا، وعمل بذلك الزعماء الذين تولوا مسؤولية بناء المغرب المستقل وناضلوا من أجل دمقرطته كعبدالله إبراهيم وعبدالرحيم بوعبيد وغيرهما، والجمع بينهما لا يمكن أن يقود إلى دولة اجتماعية ولا إلى دولة ديمقراطية، بل إلى الحائط .