جماعة مراكش الوطنية اليوسفية بزعامة عبد الله ابراهيم بين سنتي ( 1934 -1937 )
محمد الطوگي
هذه نماذج مما جرى في الأقاليم المقموعة الأخرى بالمغرب 1937 وليس المهم لفت النظر لسوء التربية وقساوة المعاملة بقدر ما يهم مغزاها في تفكير إدارة الحماية القمعى وقد كان القمم الاستعماري بمراكش نظرا إذ ذاك لتأثير هذه المدينة التاريخية القديمة، روحيا وإعلاميا على كافة قبائل الجنوب، وفى داخل أقاليم الصحراء، التى لم تنته الحرب فيها (جبل صاغرو وقبائل آيت باعمران إلا منذ سنتين فقط، كان قمعا يهدف إلى تحطيم الرموز التاريخية، والقيم التقليدية والوطنية، وتفكيك نظام التركيبة المعنوية للنسيج الاجتماعي المغربي وتفجير أسسها نفسيا، عند جماهير سكان الجنوب الكبير ، وذلك بوسائل الإذلال المعنوي الطائش والتعذيب العلنى المهين والدفع بالسكان نفسيا إلى المازوشية والانخذال الجماعى والاستسلام في الأخير أمام المستعمر وإلا فكيف يفسر تعذيب وإهانة العلماء والقادة الوطنيين في داخل كهوف الشرطة القذرة المظلمة ثم كيف يفسر أيضا، إجبارهم على تنقية مجاري الوادي الحار وتبليط الطرق العمومية أو نقل الصخور على الأكتاف العارية في الصحاري (رحم الله الشهيد محمد القري) إن هذا النمط من القمع الهمجي الذي طال المغرب بأسره يحدث في ظل حكومة فرنسية انبثقت عن انتصار الجبهة الشعبية فى فرنسا، وكانت الحركة الوطنية المغربية ترى فيها محاورا متفهما لقضاياها. بيد أن وزارة ليون بلوم عينت الجنرال نوكيس في منصب المقيم العام خلفا لبيروتون، فقام نوكيس استخدام العصا الغليضة وصم أذنه عن الإصاخة لأي مطلب وانتهى به الأمر إلى حل كتلة العمل الوطنى فى سنة 1937. وقد أعقب ذلك مظاهرات عمت معظم أنحاء المغرب قمعت بشراسة وهمجية وانتهت بنفى علال الفاسي إلى الكابون، ومحمد بن الحسن الوزاني إلى الصحراء والزج بنشطاء مراكش إلى سجون تارودانت كان هذا الضرب من القمم عاملا رئيسيا في سريان تيار المقاومة الوطنية فى سائر مناطق المغرب. ” لقد كان تصرف المستعمرين المستعمرين قاسيا ومهينا للشعب المغربي حقا، ولكنه أيقظه بعنف ووجهه إلى بذل النفس والنفيس دفاعا عن الحرية” (27)
و يشير هذا النص إلى البعد الدينى الأساس في هذه الحركة الوطنية، وقد انعكس جليا فى الإيديولوجية السلفية التى حمل لواءها في المشرق الشيخ محمد عبده يقول عبد الله إبراهيم: “تنبغى الإشارة إلى أن التيار السلفى تياران؛ أحدهما ثوري وهو تيار جمال الدين الأفغاني وآخر معتدل وهو تيار محمد عبده وهو فكر فقهی مستحدث، وهذا الأخير هو الذي كان له دور كبير في المغرب” (28)
فهذا التيار الدينى الذي واجهت به الحركة الوطنية الإيديولوجية الاستعمارية، يرى أن ضعف المجتمع العربي، بما فيه المغربي، وتقهقره راجع إلى التنكر للدعوة الإسلامية. وفي إطار الإسلام يميز بين إسلامين: إسلام متعال أصيل غير ملطخ بعوارض الزمان، وإسلام خاضع لأهواء المسلمين محرف مشوه على مدى القرون والأجيال ” (29) ومغلق لباب الاجتهاد وبما أن العدو يستفز الشيخ السلفى باستمرار، ويتكلم عن الحملة الصليبية وعن الأخذ بالثأر (30) نجد الشيخ يتولى الرد على دعاوى الاستشراق ويرى في النزاع مع الغرب نزاعا بين النصرانية والإسلام. ”
والنص يجمع في قرن واحد بين تيار الشيخ السلفى والتيار الليبرالي الذي رمز له يسعد زغلول فقد تمثلت الحركة الوطنية المغربية آراءه. ووشى المثقفون بخطبه ذاكراتهم ” لقد شخص الزعيم السياسي الليبرالى داء المجتمعات العربية القديمة والحديثة فاستبان بذلك الدواء كان الحكم العثماني استبداديا، وجب إذن انتخاب مجلس نيابي كان النظام العثماني يقنن كل الحرف، وجب إذن فتح المجال لكل فرد نشيط. كان النظام العثماني لا يتضايق من تفشى الجهل، وجب إذن نشر التعليم بكل الطرق والوسائل، ولبث هذه الأفكار فى صفوف الشعب راح الزعيم الليبرالى يبحث في التاريخ الإسلامى عما يزكى دعواه وبهذه الوسيلة استطاع الزعيم السياسي الدفاع عن العقيدة الإسلامية ونفى أن تكون من عوامل الانحطاط، كما يزعم ،الغرب، فسبب الانحطاط – هو الاستبداد والاستبداد طارئ على المسلمين وعلى العرب. لا مانع لنا من أن نستدرك ما فاتنا، ولا يزال أمامنا مستقبل، بالديمقراطية سنعود من جديد إلى مسرح “التاريخ (31) .
إن الجواب السلفى عن إشكالية الانحطاط يتقاطع في عدة نقط مع الجواب الليبرالى عن نفس السؤال. ومن ثم لا غرابة إذا وقفنا على اصطلاح الرؤيتين لدى الشخص الواحد يقول عبد الله إبراهيم: “إن التناقض بين الفكرين “السلفي” و”الليبرالي” يعتبر محض وهم و ” وعى” زائف، فليست الأصول الاجتماعية لأقطابهما – علال الفاسي وأحمد بلفريج – هي وحدها التي توحدهما، بل أيضا مفاهيمهما الإنسانية وأهدافهما في نهاية التحليل، أما الاختلاف فلم یکن سوى في الطرق واللهجة، وفى سبل العمل وطرق التأثير والاتصال….. وعندئذ فليس الصراع بينهما واجبا بالضرورة بل العكس هو الصحيح غالبا؛ وهذا هو الذي وقع في المغرب والمغرب العربي عموما؛ حيث تعاونا وتواشجا ووزعا بينهما الأدوار داخل تنظيمات سياسية أو غيرها، كانت في الغالب موحدة، ويقبل فيها الليبراليون قيادة السلفيين لهم مثل جماعة الرباط منذ 1925؛ بلا فريج ثم اليزيديان مع علال الفاسي” (32) من خلال النص نعلم أنه لم تكن مصر ملهمة إيديولوجيا الحركتنا الوطنية من فحسب، بل كان مسار تاريخ حركتها الوطنية وثمرات مطابعها من صحف و دوريات ومجلات وكتب منابر ساهمت في تكوين الشباب المغربي المتنور ثقافيا وسياسيا، ولم تكن القضايا المنشورة فى هذه المنابر تكتفى بالحديث عما يجري في مصر بل غطت فيما غطت مجريات حركات التحرر التي يتزعمها الشباب في الشرق الأقصى كالهند وعلى سبيل المثال فقد تعرف شباب المغرب المتنور على حركات التحرر فى مصر والهند التى نادت بالاستقلال ورحيل المحتل منذ بداية القرن العشرين وقبل فرض الحماية على المغرب ” ففى هذين البلدين عملت السلطات الاستعمارية الإنجليزية شعرت بذلك أو لم تشعر، على خلق مناخ سياسى دفع مجموعة من الشباب المثقف إلى تنظيم الشعب وتوعيته وتوجيهه المقاومة المستعمر الإنجليزي والمطالبة الفورية بالاستقلال. إن حدة هذه الحركة في الهند هددت مصالح الانتلجانسيا البريطانية في كلاكوتا، وكذا مصالح الملاك العقاريين البريطانيين في جزئها الشرقى ومما زاد الطين بلة إصدار اللورد کوردسن قرارا فى سنة 1905 يقضى بتقسيم البنغال هذه المنطقة التي ظهرت فيها بذرة فكرة الاقتصاد السياسى الوطنى منذ أمد أما في مصر الإنجليز في سنة 1906 بمجزرة رهيبة تعرضت لها قرية من قرى الصعيد؛ مما أدى إلى اندلاع حركة شعبية ضد السلطات الاستعمارية، ولم ينفع معها عزل مشعل فقد قام جنود هذا الفتيل اللورد كرومر.
م
إن القفزة النوعية للإعلام التى عرفت في نهاية القرن 19 وبداية العشرين وكذا ما وصل إليه التعليم من (33) مستوى رغم محدوديته قد ساهما في إعطاء
نفس الإيديولوجية التحررية والتقدمية. ولهذا لا غرابة إذا ظلت زعامة هذه الحركات، سواء فى آسيا أو إفريقيا، وقفا على النخبة المثقفة داخل المدن وكذا في أوساط رجال المال والأعمال، وقد استفادت هذه الحركات التحررية بدورها من حرب الريف المغربية التى اعتبر هو شي منه ) بطل تحرير الفيتنام، زعيمها محمد بن عبد الكريم الخطابي رائداء لأنه قدم نموذجا للمقاومة المسلحة لانعتاق الشعوب من الاستعمار (34)
المضـ
ين
الح
بت
هذا ما أوحت لنا به فقرة عبد الله إبراهيم المبتدئة بقوله “كنا على اتصل بكل ما يجري فى الشرق إلى قوله تعرفنا على سعد زغلول وكان بعضنا يحفظ خطبه .
ز – تطرق النص إلى الإصلاح التربوي والعلمى فى جامعتي القرويين وابن يوسف. وهذا الإصلاح هو ما اصطلح عليه باسم النظام (35). ويمكننا اعتبار هذا المطلب ممثلا للوجه التربوي والثقافى للحركة الوطنية، ويدل على رؤية ثورية “لأنه يطرح تصورا جديدا مخالفا لما . هو قائم” (36). لقد كان هم إصلاح التعليم في جامعى القرويين وابن يوسف مشغلة المخزن منذ أن فرضت فرنسا حمايتها على المغرب، إذ عبر عنه مولاي يوسف في خطاب كان قد توجه به إلى العلماء لكن السلطات الاستعمارية عملت على عرقلته مرارا، وأبت إلا أن تترك جامع القرويين محنطا متمسكا بآخر ما وصلت إليه الثقافة الإسلامية في الانحطاط. تبنت الحركة الوطنية هذا الإصلاح، وظلت تناضل من أجله. خلال النص نلاحظ أن الحركة الوطنية لم ترفض القديم لقدمه بل اعتمدت في ضرورة تجاوزه على التحليل وطرح البديل. وهاهنا تكمن ثورية الحركة وعقلنتها. فهذا عبد الله إبراهيم يكتب عن هذا الشأن قبل رحلته الدراسية إلى فرنسا انطلاقا من نظرية ابن خلدون في العلم والتعلم عصر ومن ورصد
المظاهر السلبية التى ابتليت بها الجامعتان من ذلك أنك تجد الطلبة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون همهم العكوف على حفظ الألفية والشيخ خليل ” فهما
الحكمة المخفية”.
وإن هذا المذهب الجاف القائم على الحفظ وحده أصاب العقلية المغربية بنوع من الشلل، وصدم لديهم قوة الإدراك صدمات متلفة تغلغلت آثارها في حياتهم الفكرية تغلغلا مخيفا” (37)
– المشايخ يكررون أنفسهم ولا ينتجون معرفة جديدة
الأدب الحى لا صلة بينه وبين الكليات في المغرب… ” فالكلية عندنا تجهل الأدب وتحتقره، وتزدري بكل شيء غير خليل وغير المكودي والأشموني، فهى تكره الأدباء وهى تسخر من الأدب وهى تعد الانصراف إليه جريمة لا يطمس أثرها في النفوس ولا يمحى شرها ولا يساقط عارها” (38)
لقد مثل العقد الأول من القرن العشرين فى تاريخ المغرب برزخا بين ماض أخذ في التولى والدخول في زمان المغرب الحديث. وقد فرضت هذه الفترة المعاصرة الرد على مختلف التحديات الاستعمارية بتحد مماثل فواجهت الحركة الوطنية الإيديولوجية الرأسمالية الاستعمارية بالإيديولوجية السلفية اللبيرالية وعارضت سياسته القائمة على التفرقة بمقدسات وحدة الشعب المغربي وواجهت عراقيله من أجل إصلاح جامعى القرويين وابن يوسف بالنضال والإصرار على إقرار النظام الذي شرع بالعمل به فى القرويين ابتداء من سنة 1936، وفي ابن يوسف من مطلع العام الدراسى لسنة 1938، وقاومت اخطبوط تجهيل الشعب المغربي وإبقائه أميا، حتى يتسنى لهم التلعب به وفق أهوائهم واجهوه بتوسيع دائرة التعليم الوطنى الحر وتنظيم دروس محو الأمية ودروس ما بين العشاءين في المساجد. لقد كانت الحقبة حقبة خطيرة كما كانت حقبة إعلام وتواصل بامتياز. ولهذا فلكى تؤدي الحركة الوطنية دورها بنجاعة كان لا بد من إصلاح المناهج، وإعادة النظر فى طرق التعليم، وتفتيق مواهب المتعلمين والسير بهم نحو تملك اللغة العربية لغة الذكر الحكيم، والتصرف بها في مختلف فنون القول بما فيه الخطابة والترسل والشعر؛ لأنها وسيلة الحركة لإيصال أفكارها الوطنية إلى كافة الشرائح فى السهول والجبال والصحاري. لقد تم تطبيق الإصلاح في الجامعتين، ولكن همة عبد الله إبراهيم وثلة من رفقته كانت فوق ما جاء به الإصلاح، فوسعوا أفقهم بقراءة المطبوعات المختلفة التي ترد من الشرق والتي كانت تصلهم بشتى الطرق .
نجح عبد الله إبراهيم في امتحان الشهادة العالمية بامتياز في سنة 1945. وفى السنة نفسها سيتوجه إلى فرنسا للاستفادة كما يقول من صدمة الغرب. وهذا منعطف جديد سيكون له أثره فى تكوين شخصية عبد الله إبراهيم وبلورة رؤياه الجديدة للعالم .