طالما شكلت مراكش عاصمة لدولة مغربية مترامية الأطراف شمالا وجنوب وشرقا ولم يحدها غربا إلا المحيط الأطلسي، لذلك كان من الطبيعي أن يكون لعاصمة الدولة المغربية امتداد داخل العمق الإفريقي كان من أبرز تجلياته أن المرابطين والموحدين كانوا السباقين لحمل لواء نشر الإسلام في القارة السمراء ونقل تعاليمه السمحة لشعب قارتنا الإفريقية، لكن موضع الشاهد الذي يهمنا هنا هو ردة الفعل وحركة التفاعل والانفعال المعاكسة؛ أي تأثير الروافد القادمة من إفريقيا جنوب الصحراء على المجتمع المغربي عامة، والمراكشي الذي نهتم بدراسة حالته، خاصة…
تاريخيا بدأ احتكاك مراكش مع عمقها الإفريقي منذ المراحل الأولى لتأسيس المدينة بل قبله حتى، لدرجة أن أبا بكر بن عمر اللمتوني المؤسس الفعلي لدولة المرابطين في شكلها النهائي والمؤسس المحتمل لمدينة مراكش على اختلاف الروايتين ـ إذ تقول الرواية الأخرى إن مؤسس مدينة أرض الله (أمور ن ياكوش بالأمازيغية) إنما هو يوسف بن تاشفين ـ، كان قد استشهد على تخوم السودان وذلك بعد تركه سياسة الدولة ليوسف بن تاشفين وتفرغه هو لحمل لواء نشر الإسلام عبر ربوع القارة…
لكن علاقة مراكش بالقارة السمراء ستبلغ أوجها إبان حقبة الدولة السعدية سيما أيام المنصور الذهبي، الذي لن يكون عهده سخاء رخاء على البلاد والعباد فحسب، بل ستزدهر فيه كذلك حركة الفنون خصوصا فنيّ الدقة المراكشية وڭناوة اللذين تبدو فيهما البصمات الإفريقية واضحة جلية، وهو ما سيأتي ذكره بالدليل في القابل من سطور…
يسود الاعتقاد بأن الدقة المراكشية فن ظهر في مدينة تارودانت قبل قدومه إلى مدينة مراكش مع الحرفيين الذين طوروا هذا الفن في المدينة الحمراء مع مرور الزمن لدرجة جعلته يحظى بشخصية مستقلة وشهرة وصيت ربما يكون أكبر وأعلى من ذاك الذي ناله الأصل، وهو قول ربما يصح إلى حد بعيد، لكن المتأمل الدارس لتاريخ الفن سيدرك دون محالة تأثير الروافد الإفريقية على هذا الفن الذي دخل مراكش من بوابة حومة القصور قبل أن ينتشر في ما يعرف عند أهل الدقة بالحومات السبع المؤسسة (القصور، درب ضباشي، بنصالح، باب دكالة، رياض العروس، الزاوية العباسية، الموقف)، ومنها إلى باقي أحياء وحومات مراكش…
أولى تجليات هذا التأثير الإفريقي على فن الدقة المراكشية تظهر في بعض الآلات المستخدمة سيما آلتي الطعريجة والقراقش واللتان كلاهما ذات أصل إفريقي لا خلاف بشأنه عند أهل الفن، ثم في تسمية الجزء الثالث والأخير من مراحل الدقة المراكشية بعد العيط وأفوس؛ ألا وهو الڭناوي، فإن كان فن ڭناوة يعود بأصل الكلمة إلى غناوي أي غيني قادم من ساحل إفريقيا الغربي (ليس من دولة غينيا الحالية فقط)، فإن ڭناوي الدقة المراكشية يمتح من ذات المعين، ثم ثالثا لدينا دليل قوي جدا يقول لنا بأن الأداء الموسيقي الجماعي لفرقة من الرجال، لم يكن من العادات المعروفة ولا المستساغة لا لدى الأمازيغ ولا العرب في العصور السابقة، اللهم من استثناءات قليلة ونادرة يأتي على رأسها فن أحواش ربما، وبالتالي فأقل تأثير محتمل للرافد الإفريقي على فن الدقة المراكشية يأتي من خلال الآلات المستخدمة في “الڭور”…
لكن التأثير الإفريقي على الفنون لن يقتصر على الدقة المراكشية، بل سيتجاوزها إلى فن طرق أبواب العالمية خلال السنوات الأخيرة، وهو الفن الڭناوي الوافد مع العبيد المستجلبين من أغوار إفريقيا السحيقة، بل إن كلمة ڭناوي ذاتها تعني الغناوي أي الشخص الوافد من ساحل إفريقيا الغربي، هذا علما أن الفن الڭناوي لم يكن يؤدى بالدارجة المغربية في العصور السابقة، وإنما باللغات التي كانت منتشرة على الساحل الإفريقي ومن أبرزها لغات البامبارا وLe Peul والمالينكي والوولوف…
التأثير الإفريقي على مدينة مراكش لن يقتصر على المجال الفني فقط، بل سيظهر حتى على تركيبة السكان الذين يحتل سمر البشرة نسبة مهمة منهم، وهو أمر طبيعي ومفهوم تماما لأن الوافدين من إفريقيا جنوب الصحراء ذابوا وانصهروا وسط منظومة المجتمع المغربي على مر القرون ليصيروا رافدا أساسيا من روافد التركيبة السكانية للبلاد…
لكن على المستوى السياسي لن تمضي الأمور دائما بمثل هذه السلاسة، فالعبيد المجلوبون من إفريقيا سيتم إعتاقهم وتحريرهم على مر الزمن وتعاقب الأجيال، وذلك قبل أن يقوم السلطان إسماعيل بإعادة استعباد أحفاد أحفادهم وذلك بإيعاز من حاجبه ومستشاره المراكشي ـ لسخرية الأقدار ـ عمر بن قاسم الملقب بعليليش الذي تأتت له المعلومة من كون أجداده كانوا حجابا لدى السلاطين السعديين وهو الذي كان يتوفر على “الكناش العبيدي”؛ أي أسماء العبيد المنتشرين في القبائل، والهدف كان تشكيل قوة موازية للجيش النظامي للدولة الهدف الرئيس منها قمع ثورات القبائل المتمردة على حكم المخزن، وهي الحركة التي عرفت تاريخيا بمسمى “عبيد البخاري” لأن الجنود/أحفاد العبيد أقسموا الولاء على نسخ من صحيح الإمام البخاري، وقد كان عبيد البخاري من القوة على مدى أزمنة عديدة لدرجة التأثير الفعلي على تنصيب السلاطين والموافقة على توليهم مقاليد الحكم!!
التأثير الإفريقي ستظهر ملامحه كذلك بجلاء على الثقافة الشعبية سيما في الأقوال والأمثال التي سنضرب الذكر صفحا عن ذكر أغلبها عطفا على احتوائه على معانٍ لا يليق بإنسان مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يطلقها على أخيه في الإنسانية والدين والوطن الواحد، لذلك سنكتفي بمقولة “المڭنوي” التي يطلقها أهل مراكش على الشخص سريع الغضب حامي الدم ذي الأطوار الساخنة، وذلك حتى إن كان أبيض البشرة ، ثم في انتشار “الدادات” أي السيدات ذوات البشرة السوداء في منازل الأسر خصوصا الموسرة منها، وهنّ اللواتي تراوحت أدوارهن بين الخدمة والقيام بأعمال السخرة، إلى غاية تربية الأولاد، بل إن أغلبهن تحولن مع الإلف ومرور الزمن إلى فرد من أفراد الأسرة لا غنى عنه في تركيبتها، لذلك قلما ونادرا ما قامت عائلة بطرد الدادا أو الاستغناء عنها، بل إن الأبناء أحبوها كمربية وأم ثانية وبكوا رحيلها واستحضروها بكل خير كلما أتى الحديث على ذكراها…
ختاما لا يسعنا إلا أن نحمد الله سبحانه وتعالى على تعدد الروافد في هذا الوطن العزيز مما يكسب ثقافته وتراثه تنوعا وغنى قلما تجدهما في باقي الدول، وهي نعمة حري وجدير أن يغبط عليها أهل دولة المغرب الأقصى، أو كما قال إخواننا وأحباؤنا من أهل جبالة في الطقطوقة الشهيرة التي برع في أدائها الفنان الكبير عبد الصادق شقارة رحمه الله:
“يا وليدي رد بالك هادي بلادك وراه نتا محسود عليها “
مراد نصيري