إدريس الأندلسي
التدبير الجيد علم و ثقافة و مراكمة للتجارب. و هذا التدبير هو المطلوب خلال مراحل تنفيذ البرنامج الإستثماري الذي تم وضعه لمواجهة آثار الزلزال . و المطلوب أيضا أن يتغير الأسلوب المغربي بعمق كبير لتدبير الشأن العام ببلادنا .يظهر أن هناك تنافس غير صحي بين بعض الوزارات للسيطرة على مراحل تنفيذ البرنامج المذكور. المسؤولية التاريخية للدولة تستدعي الإبداع في تثمين التجارب التي راكمها المغرب في مجال النجاح في التدبير و في إنجازاته خلال العقدين الأخيرين. يجب أن نأخذ الدرس من نتائج مشروع تنمية العالم القروي و برنامج المغرب الأخضر اللذين خضعا لوزارة واحدة. و لا زلنا ننتظر نتائج تقييمهما منذ سنين. و رئيس الحكومة السيد عزيز اخنوش هو من اؤكلت إليه المهام التاريخية لاحداث طفرة في قطاع الفلاحة و التنمية القروية. غاب الإنجاز و لم تتحقق الأهداف. ظل الفلاح الفقير فقيرا و أستمرت الهشاشة عنوانا كبيرا في قرانا و خصوصا تلك التي توجد في جبالنا. عشنا تجارب الهشاشة مع عزلة مغاربة قتلهم البرد القارس منذ سنين. و لم نحاسب أحدا. حضر التضامن المغربي الأصيل و غاب منتخبو المناسبات الجميلة، و مات من كان ضحية الإهمال في رحلة البرد و الثلج و عواصف الشتاء. و جاء الزلزال ليعري بعض مؤسساتنا و ليبين ضعفها البنيوي. و لكن ثقافة التضامن و الحضور القوي للقوات المسلحة الملكية و الأمن و الوقاية المدنية بين بالملموس أن الدولة و كل مؤسساتها لا تقوم لها قائمة إلا بالفعل في الواقع.
و قبل البدء في معالجة إشكالية الحكامة و التدبير، نحمد في الأول و الآخر خالق الأكوان و نكره كمغاربة من يربطون كوارثا طبيعية بقرار” إلهي عقابي” يصل عنفه إلى الأطفال و الرضع و الركع السجود. لا أدري كيف تم وصل حملة فكر مقهقر إلى تدبير الشأن العام في ما مضى. تخلف هؤلاء لا يوازيه إلا من يسعى إلى إعادة إنتاج آليات تدبيرية بيروقراطية للتعامل مع البرنامج الإستثماري الموجه للأقاليم للأطلس الكبير. الفرق بين صانعي العجز الفكري و الإيماني و صانعي التدبير المعقد بالمساطر الإدارية العقيمة ليسا كبيرا. الأول يربط القرار بسلف عاش قبل قرون و الثاني يغرقنا في قوانين سنها الحقيقي يرجع إلى القرون الوسطى. هذا مع العلم أن هذه القرون لم تكن خالية من الإنجازات العمرانية و العلمية و الثقافية التي تشهد عليها حضارات و معالم تاريخية لا زالت شامخة و ذات مردود على اقتصادات كثير من الدول. و بهذه المناسبة أتمنى أن يقف رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بن كيران بعزم لإصلاح ما افسده الخطاب المتطفل و الغبي الذي ورد في بلاغ كتبه ” أبو جهل ” عن دراية بتوظيف الجهل.
مقدمة حاولت من خلالها بعث رسالة إلى من يفكرون الآن في الوسائل التي يمكن أن نستعملها لكي نضمن تنفيذا جيدا و مهنيا لكل ما ورد في خطاب الحكومة حول البرنامج الإستثماري الذي سيغطي خمسة اقاليم تعرضت للزلزال قبل أسابيع قليلة. في البدء وجب التأكيد على قضيتين اساسيتين. الأولى أنه لا مكانة لفاسد بيننا كيفما كانت صفته أو الشكل القانوني الذي تقمصه. نعم هناك صفقات كبيرة تنتظر المقاولات المغربية كيفما كان حجمها و هناك أيضا انتظارات و عقوبات شديدة تنتظر كل متهاون أو غشاش مهما كان موقعه السياسي و الإقتصادي. و القضية الثانية تهم أساليب التدبير و متابعة التنفيذ. و في هذا المجال يجب التذكير بأن بلادنا قد راكمت خلال العقدين الأخيرين تجارب تدبيرية حكمتها مؤشرات الإنجاز و متابعة على أعلى المستويات. لن أجزم أن كل الوحدات الإدارية و التدبيرية التي أوكل أليها برنامج استثماري كانت كلها محكومة باطار أخلاقي و بحكامة مضبوطة و قابلة للافتحاص و التقييم. كل ما يمكن قوله أن تدبير البرنامج الإستثماري العمومي عبر إدارات مستقلة و وكالات لها هامش من الحرية المسطرية و القدرة على الإيقاع السريع في التنفيذ، حقق ما لم تحققه سياسات قطاعية من طرف وزارات و حتى مؤسسات عمومية ظلت تخضع لسلسلة من الرقابات و تدبير بمجالس إدارية و مجالس توجيهية و أخرى إستراتيجية. كلما زاد التعقيد المؤسساتي، زادت قوة البيروقراطية و تأخر تحقيق النتائج و ضعفت مؤشرات الإنجاز.
نحن أمام برنامج استثماري كبير فرضه زلزال و وجد في بنية الدولة ونظام ضبط الأولويات لديها القدرة على القرار. و الكل يعلم أن الإرادة السياسية تسمو فوق كل المؤسسات التي لا زالت تخضع لبنيات لم تعد قادرة على الإبداع و الحلول الاستباقية و لفاعلين سياسيين أغلبهم إلى الجهل أقرب من المعرفة و إلى خذلان المواطن أقرب من خدمته. لو تم تفعيل مبدأ ” من أين لك هذا؟” لاستراح الوطن و مؤسساته من شر خلق ابتلينا بوجودهم معنا في بلادنا المحفوفة بالعناية الالاهية. و ما سبق سيزيد إصرار المغاربة على إصلاح بلدهم و تحصين ثقافة تضامنهم و غيرتهم على قيمها و برامجها و مؤسساتها. هؤلاء المغاربة كثر و أغلبية منهم تعمل في المؤسسات السياسية بإخلاص و في الإدارات بتفان و من ضمنهم الاكفاء و الخبراء و ذوي التجربة و من راكموا القدرات على تدبير الإستثمار وفق أهداف مضبوطة.
اليوم قد تظهر تطاحنات بين الوزارات و قد تتطور في إتجاه تعقيد المساطر. الكثير من متابعي التدبير يعرفون التنافس القديم الجديد بين وزارات الداخلية و المالية و التجهيز و الفلاحة بهدف الاستحواذ على تدبير السياسات العمومية و البرامج الإستثمارية. كل وزارة تريد أن لا تفلت من يديها ملفات و ميزانيات. و نسينا كل الاخفاقات التي رافقت تدبير برامج تعميم المياه الصالحة للشرب و القضاء على مدن الصفيح و فك العزلة الطرقية عن مناطق كثيرة و تعميم الكهرباء و تكثيف الخدمات العمومية التعليمية و الصحية. هذه الاخفاقات هي التي تسببت في تراجع مؤشر التنمية البشرية ببلادنا و هي التي كان وراء ضعفها من خططوا لكي يصل ضعفاؤنا معرفيا و تكوينا إلى تدبير الشأن العام.
نجاح سياساتنا القطاعية و العمومية و برامجنا الإستثمارية هي نتيجة الحكامة الجيدة. و هذه الأخيرة يجب أن تكون من صنع أبناء هذا الوطن المتميزين. كيف انجزنا شبكة الطرق السيارة و السكك الحديدية و الموانئ و من اؤكلت إليه مهام المتابعة و التنفيذ. هذا السؤال سيظل مركزيا و ذو طابع إستراتيجي ما دام التسابق محموما بين الوزارات لتبني ” النجاح المرتقب ” و السيطرة على القرار المتعلق بالبرمجة و التنفيذ و الغياب حين يصبح التقييم ضروريا.
ليس مطلوبا من الحكومة أن تعيد اختراع العجلة و لكن أن تتطور إمكانيات ابتكار الآليات الحديثة و رسملة ما تراكم من تجارب مؤسساتية ناجحة. كيف وصل ميناء طنجة المتوسطي إلى المستوى العالمي و كيف تغير الوجه العمراني و الإقتصادي لجهة الشمال و كيف نجحت المشاريع الكبرى؟؟؟؟؟. هناك حكامة وراءها خبرة و خبراء و أخلاق و معركة ضد الفاسدين و الفاشلين و المستلين إلى مراكز القرار. النجاح في تدبير المشاريع التنموية ليس شخصيا بل بنيويا و جذوره صلبة و مستمدة قوتها من الثقافة المغربية في امتداداتها الكونية. طموح المغربة أكبر من مجرد برنامج استثماري، لكنه نتاج لإرادة كبرى تقوي المؤسسات و لا تنتظر أن يستفيق المسؤول من غفوته. يمكن أن نحقق أقصى درجات الإنجاز بالأيدي الوطنية الصلبة. و لنا في القيادات الوطنية ذلك الرأسمال المغربي الذي يتجاوز فيه المتكلم بكثير من الرقي ليرحل بعيدا٣