إدريس الأندلسي
كثرت لدينا الألقاب التي لم تكن من ضمن الأعراف الجامعية. لقب “الدكتور” لم يكن له وجود في العلاقات داخل الكليات. كانت شهادة الدكتوراه مرحلة أولى قبل الدخول إلى عالم البحث العلمي. كتب الأساتذة في كلياتنا الكثير من الأبحاث و كانت لهم عدة إصدارات و لكننا كنا و لا زلنا نكن لهم كبير التقدير و نحن نخاطبهم أو نتكلم عنهم باستخدام لقب” أستاذ ” و هي درجة أعلى بكثير من “دكتور”. وتفشت ظاهرة الدكاترة إلى تجاوزت المحيط الجامعي لتحط الرحال بمجال الإعلام و حتى بمجال الحفلات و الأسواق. و الأكثر من هذا ظهرت ألقاب أخرى “كالخبير و المحلل و رئيس مراكز البحث ” . و الأمر الجلل أن القضية تنم عن كذبة كبيرة. و الدليل أن كثير من الدكاترة الخبراء المحللين أصحاب مراكز البحث لا ينتجون سوى هراء على مواقع التواصل الإجتماعي.
فكما أن عالم الصحافة شهد ولوج أشباه أميين إلى ما يسمى البحث عن الخبر و تحليله بقدسية و حرية ، شهد المشهد الجامعي تراجعا خطيرا مع تراجع اعداد الأساتذة الاكفاء و تزايد اعداد الطالبات و الطلبة. و حكى لي أحد الأساتذة المقبلين على التقاعد أن التدريس بكليات الحقوق باللغة الفرنسية أصبح صعبا في غياب أساتذة يتقنون لغة التدريس. و كم من طالب من دول جنوب الصحراء اندهش لمستوى اساتذته و جهل الكثير منهم بقواعد لغة فولتير و لغة شكسبير. و رغم هذا الواقع المر تتفتق عبقريات في مجالات “الخبرة ” في السياسة و القانون و المالية و الإقتصاد و الاستراتيجية…” صحيح أن “اللي حشمو ماتوا” . من يتابع القنوات الإخبارية الأجنبية يتبين له الفرق في تمكن الخبراء الحقيقين من آخر معلومة في موضوع معين و تعثر و تلعثم خبراء يتم تأثيث نشرات أخبار قنواتنا بتدخلاتهم . الخبرة تكتسب باختبار العلم في مواجهة متطلبات تدبير الواقع من أجل تغييره. هكذا يتقدم الطب و تتقدم الهندسة بكل فروعها ،وهكذا تتطور العلوم الانسانية و يصل علم التاريخ إلى سبر أغوار الحقيقة بكثير من النسبية. السادة الخبراء المحللون و سعادة الدكاترة تنقص الكثير منهم فضيلة التواضع كتلك التي سكنت الحبابي و العروي و الناجي و الخطيبي و فاطمة المرنيسي و عزيز بلال و جسوس و عبد الله كنون و الفقيه المنوني و المختار السوسي و غيرهم و غيرهن. و لأن الأزمات تبين طينة من يمتلكون العلم في مقابل من يتطفلوا عليه، فإن أزمة كوفيد و تبعاتها الإقتصادية و الإجتماعية عرت الكثيرين ممن كانوا لا” يمشون على الأرض هونا” و لذلك لا يجب لا يمكن أن يقولوا “سلاما”.
لدينا الكثير من الخبراء في كافة المجالات و الذين يوجدون في بيوتهم بعد أن بلغوا السن القانونية للتقاعد و الذين راكموا تجارب كبيرة في عدة مجالات و معها الكثير من التواضع، لم يجدوا آلية محفزة للاستفاده من خبراتهم. لديهم اللغات و المعرفة العلمية و أسلوب التبليغ و القدرة على التكوين و إيصال المعلومة بطريقة عميقة للطلبة و للباحثين ولكن هناك عجز ملحوظ لاستقطابهم و دفعهم إلى المساهمة في سد الخصاص مؤقتا في عدة تخصصات. إنهم خبراء في الديبلوماسية و الإقتصاد و التدبير البنكي و التسيير المالي و العلوم الإدارية و اللسانيات و من الممكن ضمان مساهمتهم في التكوين و لو لساعات معدودة في الأسبوع. و بهذا قد يستفيد السادة الدكاترة من خبرات حقيقية في مجالات عدة تراكمت لدى من زاوجوا بين العلم و التجربة العملية. و في إنتظار غد أفضل تواضعوا أيها ” الخبراء ” تواضع العارفين.