ٱدريس الأندلسي
لن أجامل من يعتقدون أنهم يعشقون ” الراب” كأسلوب في الغناء لا وجود لاسم له في اللغة العريية. ظهر الأسلوب في الوسط الافروامريكي للتعبير عن غضب و رفض لواقع تمتزج فيه العنصرية بالتهميش الإقتصادي و الإجتماعي. هذا الأسلوب يركز على ترديد الكلام بجمل موسيقية بسيطة و بإيقاع موغل في التكرار. يكاد رواد هذا النوع من ” الموسيقى ” يكفرون بقواعد الموسيقى المتعارف على أنها تنهل من اجتهادات و تدريس و قيم ” جمالية” حسب إطار جغرافي و اجتماعي و ثقافي ولدت في عدة مجتمعات.
ما يسمى بالراب لا يمثل اسلوبا موحدا في قواعد أداءه. هناك من رواده من يكتفي بترديد كلمات مصاحبة بإيقاعات صاخبة و بشي من الحروف الموسيقية. و هناك من يمزج بين الأداء الغنائي الجميل و ترديد الكلمات و تنويع الإيقاع. سمعت كثيرا من فرق الراب في المغرب ولم أستطع أن أتأكد أنها تنتمي جميعها “لمدرسة واحدة ” . و تأكدت كذلك أن بعض الرواد لهم ثقافة موسيقية محترمة بينما لا يفقه جلهم في علم الموسيقى.
في بلادي ظهر شباب حملوا هذا الأسلوب و منهم من راح إلى حال سبيله و منهم من أستمر. منهم كذلك من تأثر بفن الملحون و بالموروث الشعبي من أشعار و ايقاعات و ألحان و منهم من رأى في نفسه عنترة في معركة كر و فر. تجاوز بعضهم إطار الكلام المباح في الجانب المتعلق بالسب و الشتم و عدم إحترام أي أحد باستخدام ما لم يتعود المغاربة على سماعه و قبوله. هذا البعض، الذي يظن أنه وصل إلى قمة سوق حرية فوضوية تتعدى حدود ما توافق عليه المغاربة. نعم، يزخر مجتمعنا بقاموس من الشتائم التي يتبادلها المتخاصمون في احياءنا و دروبنا و قرانا و مدننا. و لكن لا أظن أن هذا الواقع يحمل قيما جمالية تتاح لها فرصة الوقوف على خشبة أمام آلاف من الأسر من أطفال و آباء و أمهات و بدعم حكومي. وقف أحد النكرات التي تستغل كل صور التدهور المجتمعي لكي تستغله من أجل اغتناء سريع. هذه النكرات وصلت بها الجرأة و تحت تأثير المخدرات، إلى التفوه بالجهل في أتفه مظاهره.
و لأن الاستهتار إذا سكن الجاهلين تحول إلى مزبلة، فإن النكرات المتسترات وراء أسلوب “الراب” يتحولن إلى أسلحة متنقلة تتسبب في خلق الفوضى. كان مهرجان الدار البيضاء المسمى “البوليفار” يمر منذ سنين في ظروف طبيعية، إلى أن حل به ذلك الذي تفوه بالكلام الساقط في الرباط أمام الآلاف و أفتخر بكونه يتعاطى للمخدرات. أن يستر نفسه و يتعاطى مع الأمر كسلوك شخصي ،فهذا شأنه. و لكن أن يصبح صوتا يستغل مسرحا أمام الآلاف لكي ينفت سمومه، فهذا غير مقبول على الإطلاق. لم يسبق لمن سبقوه إلى هذا المجال أن اعتدوا على الذوق العام بهذا الشكل. من البيغ إلى مسلم و آخرون، كان الهدف هو تقديم الراب من خلال كلام كثير منه قريب من واقع مجتمعي و من قيم إنسانية جميلة.
الفن تعبير سامي و لو تعلق الأمر بتصوير ظلم و فقر و كثير من آلام و غياب و حضور و حتى لحظات فرح و شجن و آمال. الفن ليس هرج و تهريج و سب و تقريع و كسر كل قواعد الإحترام التي تسود بين الآباء و الأبناء و بين الأجيال و بين التلميذ و الأستاذ. أن يسب و يشتم و يستغل ميكرون لنفت سموم و إرهاب الحضور، فهذه ليست شجاعة و لكنها هلوسة انتجتها المخدرات. هذه المخدرات التي هيجت عشرات من الشباب و اليافعين لتحويل حفل البوليفار إلى ساحة للاعتداء و السرقة و إستعمال أسلحة بيضاء. و بالطبع لا يمكن ربط هؤلاء بمن كان يغني و لا يغني ، ولكن يمكن ربط سلوكهم بالتهييج الذي يمارسه من يحمل عبارات تافهة و مغذية للعنف. و لكل ما سبق يجب أن لا تخلط الحكومة بين الثقافة و التفاهة. هل وصل الاستهتار إلى برمجة النذالة في بلاد أنجبت عبد الوهاب الدكالي و عبد الهادي بلخياط و محمد الحياني و إسماعيل أحمد و نعيمة سميح و سميرة بن سعيد و نعمان لحلو و عبدو الشريف و ناس الغيوان و جيل جيلالة و سعد المجرد و مسلم… نعم لقد غاب عن وزير الثقافة و أشياء أخرى كبيرة جدا على قدرته، ذلك الوعي الذي سكن المغاربة بفعل قيادتهم التاريخية و الشرعية لكي لا يدخلوا في مستنقع محاربة الثقافة بسلاح الرداءة.
احب الفن الذي يرفع وعي المجتمعات في مواجهة العنف و الديكتاتورية و انحني اجلالا لأصدقاء مسرحيين دخلوا المعتقلات بسبب حرية إبداع و صراحة حقيقية و قضوا سنوات في سجن مكناس. مهما كان فقد أستمتع جيلنا بعبقرية مارسيل خليفة و شيخ إمام و سعيد المغربي و غيرهم. كانوا رسل فن من أجل العدالة الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية. كانوا رموزا للتغيير لا للتخدير. غنى شيخ إمام “ناح النواح و النواحة على بقرة حاحا النطاحة…” حرف الطاء لم يحول إلى التمدد عبر الواو لكي يصنع شخصية لا تسبح ضد ” طو …طوفان” .