لا شك أن توفير المسكن اللائق قد ظل هاجسا يقض مضجع الإنسان الراغب في الاستقرار سواء كفرد أو جماعة تنتظم في إطار عائلي أو أسرة نووية، وفي مراكش القديمة عرف الناس عمليات البيع والشراء والكراء كثالوث جرى به العمل طيلة قرون من الزمن، وذلك قبل أن يقتحم طرف رابع هذه المعادلة ويفرض نفسه تدريجيا وبقوة منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ إنه الرهن الذي أضحى ضرورة لا غنى عنها لدى شرائح واسعة من فئات المجتمع المغربي عامة، والمراكشي خاصة، سيما وأن الأخير هو أصل الحكاية وفصلها الأول الذي بدأ معه كل شيء…
عمليا فالرهن هو عملية قانونية يقوم بموجبها طرف معين باكتراء منزل مقابل سومة مالية معينة تدفع على مرة واحدة، يضاف إليها مبلغ الكراء الذي قد يدفع كذلك مجتمعا على مرة واحدة في سومته السنوية وهو الشيء المعمول به في السواد الأعظم من حالات الرهن، أو على شكل مبلغ شهري وهي حالة موجودة على واقع الميدان ولو أن العمل لا يجري بها كما يتم مع نظيرتها الأولى…
بعد انتهاء العقد الذي لا تقل مدته عادة عن عام ميلادي واحد في غالب الأحوال، يقوم المكتري بإخلاء المنزل أو الشقة لصاحبها الأصلي الذي يكون ملزما بإعادة المبلغ الذي استلمه ابتداء، لكنه يكون قد استفاد من السومة الكرائية السنوية التي يكون قد تسلمها إما دفعة واحدة، أو بشكل شهري كما تقدم ذكر ذلك آنفا…
من الناحية القانونية البحتة لا يعترف قانون الإسكان بشيء اسمه عقد الرهن، لذلك جرى العرف على أن يتم تمرير الصفقة على كونها “عقد سلف”؛ عقد يستفيد بموجبه صاحب المنزل من مبلغ ثابت قد يشكل له فرصة للخروج من ضائقة مالية أو يمكنه من الانطلاق في مشروع تجاري أو تدبير غير ذلك من تصاريف الحياة التي تتطلب التوفر على سيولة آنية، كما يستفيد ـ صاحب المنزل ـ من سومة كرائية تضاف إلى هذا المبلغ المالي لكنه ليس مطالبا بإرجاعها للمكتري عكس المبلغ الذي تسلمه في إطار “عقد السلف”، أما واقع الميدان، فيقول بوجود علاقة تناسب طردية بين الطرفين؛ إذ أن السومة الكرائية تقل كلما ارتفع مبلغ عقد السلف، والعكس صحيح…
تاريخيا من نافل القول التأكيد على أن ظاهرة الرهن قد ارتبطت بسياق زمني معين شهد توسع المدينة الحمراء خارج مجالها السكني الاعتيادي “داخل السور”، وذلك نظير جملة من الأسباب يأتي على رأسها الإقبال الذي لقيه الاستقرار في الأحياء السكنية العصرية التي أنشئت خارج السور انطلاقا من بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، تغير البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع المغربي، تكاثف الهجرة القروية نحو المدينة بسبب سنوات الجدب والجفاف و/أو الرغبة في تحسين المستوى المعيشي، حب المباهاة والتماهي مع روح العصرنة الذي كان يعتقد أنه سيتأتى بالاستقرار في الأحياء الجديدة، الرغبة في “العزيل” بعد الزواج بعيدا عن “دار الوالدين”، ومن جملة الأسباب المتأخرة زمنيا يمكن أن نسرد كذلك الطفرة العقارية المهولة التي عاشتها مدينة الألف سنة خصوصا خلال السنوات العشرين الأخيرة عقب استقرار العديد من الأجانب بها إما بغرض الإقامة والسكن، أو إقامة مشاريع تجارية عن طريق اقتناء رياضات المدينة القديمة التي تحول عدد غير يسير منها إلى دور ضيافة، مع ما واكب ذلك من ارتفاع كبير جدا في أسعار العقارات، وفي تكلفة الحياة بشكل عام، دون الحديث عن بروز ظواهر اجتماعية أخرى موازية لا يتسع المقام الحالي للتطرق إليها باستفاضة…
إذن فهي جملة من الأسباب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحضارية تلك التي أدت إلى بروز الرهن كطرف قوي ضمن معادلة السكن في مدينة مراكش، لكن من الثابت والمؤكد أنه ولد فيها أول مرة، ثم نشأ وترعرع طيلة عقود من الزمن قبل أن تعرفه باقي المدن المغربية تدريجيا لأسباب تلتقي وتتشابه في بعضها، مع تسجيل خصوصيات تميز السياق التاريخي والسوسيو/ثقافي لكل واحدة من هذه المدن، إنما الأكيد والمؤكد أن “أولاد عبد الواحد كلهم واحد”، و”اللي نخدمو نطيعو، واللي نرهنو نبيعو”؛ أو كما تقول هذه الأمثال المغربية البليغة .
مراد نصيري