بعد غيبة، كان سببها تأثير غياب رفيقنا عبد الواحد بلكببير، أعود وبإلحاح من الرفاق وبعض الأصدقاء لاستئناف هذه الخربشات التي بدأتها بدرب مولاي الشريف وعرجت على سجن غبيلة وها أنا في قلب المحاكمة، قبل أن أصل للسجن المركزي، في هذه التجربة التي كانت من أجمل أيام حياتي، لن أشير سوى للجوانب الإيجابية، أما السلبيات فسأتركها لحكم التاريخ.
ـ 14 ـ
من درب مولاي الشريف إلى غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف:
تم إحالتنا على محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في يناير 1977، وكما قلت سابقا، فإننا لم نتمكن، نحن الموجودون في الحي الأوروبي بسجن غبيلة بالدار البيضاء، من التحضير للمحاكمة ولم ننسق مع المجموعتان الأخريتان من المعتقلين، واللتان تضمان من كانوا يعتبرون قياديين، إحداها موجودة في نفس السجن ولكن في مكان آخر. والمجموعة الأخرى من المعتقلين، ضمنهم قيادة إلى الأمام خاصة، توجد بسجن عين برجة بالدار البيضاء.. هذا ما أعرفه أنا في ذلك الحين، فقد ذهبت للمحكمة دون توجيه، لا من المحامي الذي تطوع للدفاع عني، ولا من الرفاق الذين تواجدت معهم في الزنزانة أو المجموعة.
في المحكمة إلتقينا بباقي رفاقنا وكان هناك اتجاه عام من طرف أغلبية المعتقلين بتوجيه من قيادة إلى الإمام بالتركيز أمام المحكمة، على الإنتماء للماركسية اللينينية ومناصرة “الجمهورية العربية الصحراوية”، أو هذا ما بدى لي آنذاك، باستثناء رفاقنا الثلاثة من قيادة 23 مارس المرحوم عبد السلام المودن والرفيقان علال الأزهر وعبد العالي بنشقرون، الذين رأوا أنه يجب التركيز على برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية، وفضح القمع وسياسة التفقير واعتبار هذه السياسة تتناقض مع الموقف الوطني الثوري من الصحراء المغربية وكذلك فضح أهداف الاتفاقية الثلاثية التي أبرمت بين النظام والحكم الفرنكاوي والنظام الموريطاني والتي تعد مساسا بالوحدة الترابية.
المحكمة في الحقيقة، كما رأيت وشاهد الجميع، كانت استمرارا لدرب مولاي الشريف، فمن كان يسيِّر ويدير المحاكمة عمليا، هو قدور اليوسفي ومعاونوه، وكان محمد أفزاز مجرد ديكور ومنفذ للتعليمات التى تملى عليه.
حاولوا أن يجعلوا من الكرفاتي شاهد إتبات يريدون استغلال ردة فعله لما تعرض له من اضطهاد، ولكنهم لم يفلحوا في مسعاهم، فبمجرد وقوفه أمام أفزاز قال لهم إنه لن يتكلم إلا بحضور الملك الحسن الثاني، فأخرجوه من القاعة، وفي اليوم الثاني حين أتوا به من جديد، طلب من الموجودين بالقاعة الوقوف وترديد شعار: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومن ذلك اليوم، على ما أظن، لم يعد يحضرونه لقاعة المحكمة، ربما يكونون قد نقلوه للمستشفى.
ولا بد أن أفتح قوسا لأقول ولو كلمة في حق محمد الكرفاتي كما عرفته من خلال معايشتي له في فترة السرية، لقد كان شخصا نموذجيا يتميز بالشجاعة والجرأة وكان فكره وقادا يتميز بعمق التحليل والاستنتاج الصحيح بعد الدراسة المعمقة للواقع الملموس، وكان بحق مشروع قائد ومفكر ثوري، ولكن، للأسف ولمكر التاريخ، أجهض في المهد كما أجهض العديد من مشاريع القادة كالمرحوم الفاكهاني مثلا الذي كان يتميز بقوة الشخصية وعمق الثقافة السياسية والاستعداد لفهم الواقع، وللأسف أجهض في المهد هو أيضا وخسرت القوة الثورية قائدا مقداما، كما خسرت الكرفاتي شفاه الله والمودن رحمه الله والمشتري بلعباس شفاه الله.
محاكمة مجموعتنا، لم يشهد المغرب مثيلا لها، في اعتقادي، فكل المحاكمات السياسية الكبرى التي عرفها المغرب، حتى ذلك الوقت، كانت على الأقل تُحترم فيها بعض الشكليات التي تضفي عليها شيئا من الاستقلالية، عن سلطة الاتهام.
أما في محاكمة يناير 77 فالأمور كانت مفضوحة بطريقة فجة.