يوميات درب مولاي الشريف وغبيلة ـ 10 ـ
كنت محظوظا لأني وضعت في زنزانة مع بعض الرفاق الذين يسكنون الدار البيضاء أو لهم أقارب بها، وبالتالي لم نكن نتناول أكل السجن إلا لماما، فقد كانت عائلات الرفاق البيضاويون، تزود أبناءها بوجبات غذائية يوميا تقريبا، إلا إذا حدث طارئ قاهر، كامتناع إدارة السجن تسلم قفة العائلات، إمعانا في زيادة قمعنا ومنعنا من أبسط حقوقنا.
في البداية كان الخروج للفسحة لا يتعدى 10 دقائق صباحا ومثلها مساء، وبعد ذلك زادت قليلا، وقد قسمونا لأفواج كل فوج يخرج لوحده كي لا نلتقي أو ننسق مواقفنا. غير أن هذا لم يمنعنا من إحداث طرق وأساليب نتواصل بها ونكسر العزلة التي فرضوها علينا. جربنا أولا أن نتواصل عبر الزنازن بواسطة النقر على الجدار نقرات يفهم متلقيها ماذا تعني. أو الكتابة بأحرف خاصة لا يفهمها غير الشخص الذي كتبها ولمن كتبت. وهذه الحروف خاصة ومن اختراع من كتبها، لا تشبه أي حرف من الحروف المستعملة، ولا حتى الهيروغليفية أو السومارية، بحيث إذا وقعت في يد غير من كتبها والموجهة إليه، لن يستطيع فك رموزها.
كنا نضع هذه الرسائل في ملابسنا ونتركها معلقة في مكان الفسحة ليأخذها من وجهت إليه، ويكون جوابه بنفس الطريقة أيضا. هذه كانت هي وسيلة اتصالي برفيقي ابراهيم موطى وبالرفيق محمد الغريسي الذي كان معي في اللجنة التقنية المكلفة بإصدار 23 مارس والنشرات الأخرى الخاصة بالتنظيم.
السجن، رغم أنهم حاولوا أن يجعلوا منه استمرارا لدرب مولاي الشريف، بطريقة مخففة، إلا أنه أتاح الفرصة للقاء والنقاش وتبادل الرأي وكذلك الاتصال بالعالم الخارجي، ومعرفة ما يجري وما يحدث من تطورات على الصعيدين السياسي والحقوقي، هذا الاتصال كان عن طريق العائلات، أو بعض المحامين الذين يقومون بزيارة بعضنا من حين لآخر.
زيارة العائلات كانت تتم في ظروف لا إنسانية، في مكان يفصلك عن من تتحدث إليه شباكين يفصل بينهما ممر يتمشى فيه الحارس، مما يجعل من المستحيل أن تسمع كلام زائرك، فقط تحاول أن تفهم ما يقول من خلال حركة شفتيه.
تم نقلنا من درب مولاي الشريف إلى سجن غبيلة، على ما أذكر في أواخر غشت من سنة 1975، نحن مجموعة أولى، وكنا ننتظر أن يتم إحالة باقي مجموعتنا على السجن، غير أن هذا لم يحدث، فقد أحتفظ ببقية الرفاق في الدرب لأشهر طويلة أخرى.
كنا نفكر في وسائل تحريك قضيتنا كي لا نُترك منسيين داخل السجن، إما بإطلاق سراحنا أو عرضنا على المحاكمة. ووسائل النضال الوحيدة التي في متناولنا، هي أمعاؤنا، أن نخوض إضرابا عن الطعام لأثارة قضيتنا أمام الرأي العام الوطني والدولي.
وهكذا بدأنا نتمرن ونستعد للدخول في إضرابات عن الطعام، فكان أول عائق يعترضنا هو العزلة المفروضة علينا داخل السجن. بعد تفكير وتدبر توصلنا لحل مسألة التنسيق بين المجموعات والاتفاق على الاضراب وعلى المطالب التي سترفع للادارة. فبدأنا كتجربة وتمرين بإضراب عن الطعام لمدة 24 ساعة.
قرأت وسمعت عن الاضراب عن الطعام، ولكن أن أعيشه مسألة أخرى، كنت خائفا ومتهيبا، ليس بسبب فراغ الأمعاء فقط، ولكن أيضا ما قد نواجهه من قمع إدارة السجن.
فإدارة السجن تخاف من الاضراب عن الطعام، لأن أصداءه لن تبقى حبيسة جدران السجن، بل ستتعداه لتصل للرأي العام الوطني والدولي، وعائلات المعتقلين لن تبقى ساكتة، بل ستعمل على إيصال نضال أبنائها المشروعة، ومعركتهم العادلة من أجل حريتهم وكرامتهم، إلى كل من يهمهم الأمر، أحزابا ونقابات وطنية وجمعيات ومنظمات حقوقية دولية، وهذا ما يخشاه النظام ويحسب له ألف حساب.
هذا التمرين التجريبي عن الاضراب، مر دون خسائر أو حوادث تذكر، اللهم ما قامت به إدارة السجن بحرماننا من الفسحة اليومية واستفزازنا بتفتيش الزنزانة وجعل عاليها أسافيلها، فاختلط السكر بالزيت وامتزجت القهوة بالشاي الخ.. وتطلب منا إعادتها لما كانت عليه، مجهودا شاقا أتعبنا ونحن مضربون عن الطعام.
أتذكر أن إدارة السجن جاءوا بأشخاص من متهمي الحق العام ووضعوهم معنا في الزنزانة، وربما أفهموهم أننا خطيرون، وبالتالي حذروهم من الكلام معنا، لا نعرف ما هو الهدف من وضعهم معنا، هل يريدون إخافتنا بهم، نحن استقبلناهم ورحبنا بهم وحاولنا أن نتجاذب معهم أطراف الحديث، ولكنهم لم ينبسوا ببنة شفة وبقوا صامتين مطأطئين رؤوسهم لا يرفعون عيونهم فينا، استمروا على هذه الحالة إلى أن أخرجوهم من زنزاتنا.
صارت الأمور عادية بين شد وجذب مع “العود” ومرؤوسيه، والتكيف مع وضع غبيلة.. أشرت أعلاه أنه كان من حسن حظي أن وضعت في زنزانة كان فيها رفاق يأتيهم الأكل من عائلتهم، ولا نتناول “بضانصي” السجن إلا لماما.
أما الرفاق الآخرون في المجموعات الأخرى، التي لا تستطيع عائلاتهم زيارتهم بانتظام، فيعيشون على ما يقدمه السجن من وجبات لا تسمن ولا تغني من جوع. وقد أطلقنا على أحد الزنازن بنغلاديش، لأن جل من فيها عائلاتهم فقيرة وبعيدة عن الدار البيضاء ولا تستطيع زيارتهم سوى لمرات متباعدة جدا.
من حراس السجن آنذاك، شخص اسمه “با دودو” هكذا كنا نناديه، كان عجيبا في معاملته، يقدم على بعض المبادرات لوحده، مثلا ينادي على اسم أحد المعتقلين بصوت مرتفع، ليس في زنزانته، ولكن في الممر، لنسمع نحن اسم المنادى عليه ونعرف أنه من رفاقنا. وفي بعض الأحيان يقوم بتحويل الأكل الذي ترسله أحد عائلة الرفاق في زنزانتنا إلى الزانزانة التي نطلق عليها بنغلاديش، والتي كان يتواجد بها الرفيقان إبراهيم وحسن موطى، يفتح الزانزانة ويضع الأكل ويغلقها ولا يقبل أي سؤال عن مصدر الأكل ولمن أتى. وكثير من المرات سمح لي بأن أقضي ساعات الفسحة مع رفيقي موطى وشقيقه حسن في زنزانتهما.
تحية ل”با دودو” الذي كان يتصرف بإنسانية، رغم التعليمات الصارمة التي أعطيت له بتشديد الرقابة واستبعاد أي تعامل تشم منه رائحة الإنسانية معنا. إن كان لا زال على قيد الحياة، أتمنى له الصحة والعافية وطول العمر، وإن كان قد غادر هذه الحياة إلى الدار الأخرى، أسأل له الرحمة والمغفرة من المولى جل جلاله.
مثل هؤلاء المواطنون البسطاء الذين يقدمون خدمات جليلة، رغم أنها قد تبدو بسيطة في وقتها، مثل هؤلاء الناس، يجب علينا عدم نسيانهم وتخليد أسمائهم في سجلات التاريخ.
وللحديث عن غبيلة صلة