يوميات درب مولاي الشريفة وغبيلة ـ 11 ـ
لا تسقني ماء الحياة بذلة .. بل اسقني بالعز كأس الحنظل
بعد إضراب 24 ساعة، الذي كان تجريبا وتمرينا. فأغلبنا، إن لم أقل كلنا، كانت هذه أول تجربة اعتقال طويل لنا، أول مرة نعرف السجن والسجان، كنا نسمع عنه ونهيئ أنفسنا لدخوله، لأننا كنا على يقين أننا سنعتقل في يوم ما، أو حتى نقتل، لأننا نتصارع مع نظام لا يرحم ولا يتساهل، حين يشعر أن هناك من يهدد مصالحه، وإن كان يعلم أننا لا نملك لا دبابات ولا طائرات، بل ولا حتى مسمارا حديديا. كل ما لدينا أفكارا ومبادئ نؤمن بها ونسعى لنشرها وإشاعتها في المجتمع عن طريق تثقيف الناس وتوعيتهم بحقوقهم وفي أن يعيشوا كرماء أحرارا، ينعمون بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، أي مواطنون يتمتعون بكامل مواطنيتهم، لا رعايا يعاملون كعبيد أو كقطيع يساقون بالعصا.
صارت أيام السجن روتينية وانتظارية، ننتظر إما أن نُعرض على المحكمة لتقرر في أمرنا، أو تقع معجزة ما فتفتح الأبواب الحديدية ويطلق سراحنا، ولكن تمر الأيام والشهور ولا شيء من هذا حدث، ولم يتبقى أمامنا سوى التفكير في وسيلة تبدد هذا الصمت وتكسر جدار العزلة الذي أقاموه حول قضيتنا. والوسيلة التي في متناولنا في هذه الحالة، هي الاضراب عن الطعام.
بدأ النقاش والتفكير في دخول معركة الاضراب عن الطعام وضمان نجاحه، ومن تم الاستعداد لمواجهة كل أساليب القمع التي ستقدم عليها إدارة السجن.
الصعوبة الأولى والأساسية التي يجب تذليلها، هي كيف ستتم عملية التنسيق في ظل وضعية العزلة التي فرضت علينا، بعد تفكير تم تجاوز هذه المسألة، رغم تعقيداتها، وتم الاتفاق على الدخول في إضراب محدود لمدة 15 يوما، يتم إعلام إدارة السجون والرأي العام الوطني، على أنه إضرابا لا محدودا.
كانت أول تجربة بالنسبة لي، دخلتها خائفا ومتهيبا من نتائجها، لم أكن أتصورها بنفس السهولة التي عشتها بها بعد ذلك في التجارب اللاحقة. اليوم الأول من الاضراب مر عاديا، بالرغم من استفزاز الادارة المتمثل في تفتيش الزنزانة، ومصادرة قطع السكر التي كانت لدينا، وحرماننا من الماء المعدني الذي أحضرته لنا العائلات.
في اليوم الثاني شعرت بفشل تام في جسدي وعدم القدرة على النوم، بقيت طيلة اليوم ممدا على ظهري وواضعا رجلا على رجل عاجزا عن الكلام أو الحركة، ولحد الآن لم أجد تفسيرا لهذه الحالة.
لم أعد أتذكر كم استمر هذا الاضراب، هل دام خمسة عشر يوما كاملة، أو توقف قبل إتمامها، كل ما أتذكره أنهم أخذوني في أحد الأيام من الزنزانة التي أتواجد بها لمكان يسمونه المصحة، وأغروني بالأكل وقالوا لي بأنهم مستعدون أن يحضروا لي شربة ساخنة وحليبا ساخنا لآكل وأفك الاضراب، ولكنني رفضت هذا الإغراء..
ولا شك أنهم استعملوا هذا الأسلوب مع آخرين غيري وتلقوا نفس الجواب
لقد كان إضرابا في ظل عزلة تامة وهذا ما أضفى عليه بعض الصعوبة، إضافة إلى أنها أول تجربة لي ولبقية رفاقي.
بعد هذا الاضراب، تحركت قضيتنا وتملمت بعض الشيء، كان من نتائجها إطلاق سراح 105 من رفاقنا بعدم المتابعة، أما الحياة العادية داخل السجن فلم يطرأ عليها سوى تغييرا طفيفا، لم يعد تصرف “العود” كما كان في الأول، خفف من روعنته بعض الشيء.
بهذه المناسبة لا بد أن أشير لتضحيات جسيمة لطرف أساسي في معركتنا، هن الأمهات الفاضلات، الجزء الأساسي من المعركة تحملته أمهات المعتقلين، تنقلن من مكان لآخر، وبعضهن لم يسبق لها أن خرجت من بيتها للشارع، وربما لا تعرف اسم الشارع الذي تقيم فيه. تواجهن مع البوليس واعتصمن في مقر وزارة العدل وإدارة السجون وفي مسجد السنة بالرباط، ولم يخضعن للتهديد والوعد والوعيد، بقين صامدات ومصرات على معرفة مصير أبنائهن وبناتهن وأزواجهن وإخوانهن، وهنا تحضرني أسماء العديد من الأمهات المكافحات، أذكر فقط البعض منهن ممن فارقن الحياة، كالمرحومة أمي عائشة، والدة الرفيق المرحوم مداد ووالدة الرفاق الحرش الصديق وعبد الله زعزاع ومصطفى أنفلوس وأحمد حبشي وأمي فاطمة والدة الرفيق حسن السملالي، ولا أنسى المناضلة ثورية السقاط رحمهن الله جميعا وأسكنهن في أعلى عليين. وتحية إكبار وإجلال لمن لازلن على قيد الحياة، وأخص بالذكر أمي حليمة والدة الرفيق المرحوم عبد السلام المودن، والأخت المناضلة الضاوية شقيقة رفيقنا بلعباس المشتري، شفاه الله. وأعتذر إن لم أتمكن من ذكر جميع أمهات وأخوات رفاق مجموعتنا.
لقد كانت معاناة الأمهات أشد وأقسى، منهن من أصبن بصدمة بعد اعتقال فلذات أكبادهن، وفارقن الحياة بعد هذا الاعتقال بقليل، ومنهن من أصبن بأمراض مزمنة، نتيجة المبيت في الهواء الطلق، أو التنقل أثناء اشتداد قساوة البرد.
أيام السجن تمر ثقيلة، ولكن الإيمان بعدالة قضيتنا، وأننا على سراط الحق سائرون، يزيد في السرعة البطيئة لأيامه، حين يتم استغلالها في التثقيف الذاتي بالقراءة والحوار مع الذات، واستخلاص الدروس من التجربة ومعرفة مكامن القوة والضعف فيها.
في السجن يجب أن تكون عينك على خارجه دائما، ولو كنت محكوما بأقصى عقوبة.
للكلام بقية