يوميات درب مولاي الشريف وغبيلة ـ 12 ـ
بعد هذا الإضراب، بدأت الحياة تسير داخل السجن برتابة مملة، تتوالى الأيام والشهور ولا جديد في الأفق، كنا في وضعية البين بين؛ لا حديث عن مصيرنا ولا عن ماذا يريدون أن يفعلوا بنا، وضعية غامضة ومصير غير معلوم.
الزنزانة التي أتواجد فيها وكنا ثمانية، كانت هي عالمنا، رغم ضيق مساحتها، فبالكاد كانت تسع أجسادنا التي أنهكتها رطوبة وبرودة دهاليز درب مولاي الشريف، في ذلك المكان الضيق نقضي أغلب يومنا، أو كله، لأن ساعات الفسحة قليلة، فيه نأكل ونشرب ونقضي حاجتنا.
وقد حاولنا أن نجعل من زنزازنة ضيقة، عالما خاصا نتعايش فيه بالرغم من اختلاف البيئة التي أتى منها كل واحد منا، شمال المغرب وسطه وجنوبه. أول مرة أسمع بعض الكلمات باللهجة الشمالية، مثل “الخرسي” “الجعدة” وغيرها من أسماء الأشياء. وقد اضفى الرفيق محمد مهدي، الذي كان، قبل اعتقاله، طالبا بالمعهد الوطني للإحصاء، على حياتنا جوا من المرح، سواء بسخريته من الأوضاع التي نتواجد بها ومن حراس السجن، أو بنكته ومستملحاته المستمدة من بيئته بقرية واد لو الجميلة. وكذلك المرحوم عبد اللطيف حسني الذي كانت له لغته الخاصة وطريقته المحببة في السخرية مما يجري، وذلك قبل أن يغادر الزنزانة مع 105 الذين أطلق سراحهم بعدم المتابعة.
إلى جانب هذا الجو المرح، كنا نناقش مواضيع ثقافية وسياسية، ويقدم بعضنا عروضا في بعض المواضيع، ولا زلت أذكر أنني قدمت عرضا حول الحركة الوطنية، كان مثار نقاش مثمر ومفيد، وقدم الرفيق عبد الحفيظ الحبابي، عرضا حول ثورة عرابي في مصر.
وناقشنا مع المرحوم عبد اللطيف حسني كتاب الاقتصاد السياسي لفتح الله ولعلو، الذي كان من مقررات السنة أولى حقوق.
وقد كانت للمرحوم عبد اللطيف حسني طريقة خاصة في مراجعة دروسه، كان يقرأ بصوت عال، وهذا يجعله يصطدم مع باقي سكان الزنزانة، اصطداما حبيا رفاقيا، غالبا ما ينهيه الرفيق عبد الحفيظ الحبابي بإحدى نكته المراكشية التي يضحك لها الجميع، فالحبابي كان هو حكيم دولتنا الصغيرة ومجتمعنا المتعدد ثقافيا وسياسيا وإنتماء تنظيميا.
هكذا كان يمر يومنا داخل عالم محدود ومغلق، هو عبارة عن زنزانة قد لا تتعدى مساحتها ستة أمتار داخل سجن هو عبارة عن ملحق بدرب مولاي الشريف، بما يحاول أن يخلقه في نفوسنا من رعب وهلع، الهدف منه قتل بذرة التمرد ضد الظلم وسوء المعاملة، وإثنائنا عن الدفاع حقوقنا. ولكنهم فشلوا في الوصول لأهدافهم الخسيسة والشريرة، لأننا كنا ننظر إليهم باحتقار وازدراء ونُفهمهم أنهم لن يفلحوا في الذي فشل فيه أسيادهم. كنا بلغة المراكشيين “نعطيهم النخال”. وعكس هذا نتعامل مع الحارس “با دودو” الذي سبق أن تحدثت عنه، بلطف، ونكثر عليه من طلباتنا، رغم علمنا أن لا سلطة له، ونحاول أن نفهمه أنه صاحب الأمر والنهي، وكان هذا يعجبه ويحسسه بأهميته. مما جعله يقدم خدمات، رغم بساطتها، إلا أنها في الجو الذي كنا فيه وفي حالتنا، لها أهميتها.
مرة أخرى تحية لـ”با دودو”
اسمرت حياتنا، في سجن غبيلة بتوتيرة جعلتنا نتكيف مع إيقاعها ونتطبع معها، نستيقظ صباحا على صوت “العود” والرنين المزعج الذي تحدثه أكوام المفاتيح الحديدية الثقيلة التي يحملها في يديه، يفتح الزنازن ويبدأ في عد من فيها، هذه العملية تتم في الصباح والمساء، بعد عملية العد، نعد فطور الصباح، هم يوزعون علينا ماء ساخنا لإعداد الشاي أو القهوة وخبزة اليوم، وطبعا نحن لا نتوفرعلى وسائل لغلي الماء أو تسخين الأكل البارد الذي يأتي من العائلات، وبما أن الحاجة أم الاختراع، فقد التجأنا لاستعمال وسيلة للتسخين اخترعها نزلاء السجن يسمونها الفتيلة، وهي عبارة عن علبة سردين فارغة أو ما يشبهها، نضع وسطها قطعة صغيرة من الثوب مشبعة بالزيت، نوقدها ونضع فوقها ما نريد تسخينه.
وحتى هذه الوسيلة البدائية البسيطة، كانت من الممنوعات حيث يتم مصادرتها وإتلافها في حملات المداهمات والتفتيش التي كانت تقوم بها إدارة السجن في فترات غير متباعدة، والتي تعد وسيلة من وساائل القمع الهمجي، الغرض منها، ضرب روحنا المعنوية، وتذكيرننا أن غبيلة، لا تختلف في أسلوب المعاملة، عن درب مولاي الشريف، ولا ينقصها سوى “البانضة” و”المينوت”، أما “الجبلي” و”الذيب” فحاضران في شخص “العود” و”الصبان”.
وبالرغم من كل هذا، يستمر التشبث بالأمل والإيمان بأن الليل مهما اشتدت حلكته فإن ضوء الفجر بازغ لا محالة.
للحديث بقية