يوميات درب مولاي الشريف ـ 2 ـ
في الأيام الأولى كان الجلادون يركزون في استنطاقهم على معرفة أسماء من لم يتم إعتقالهم من أعضاء التنظيم والمتعاطفين معه، ولهذا كان التعذيب قاسيا، سواء الجسدي بكافة أنواعه المعروفة وغير المعروفة، أو المعنوي، ورغم صمود أغلب الرفاق فقد كان يسمع بين الحين والآخر أنين البعض من شدة ألم التعذيب، وأتذكر في أحد الأيام من بداية وجودنا، أنني سمعت أنين ألم رفيق أتوا به بعد وجبة تعذيب قاسية وتم وضعه في الممر قريبا من الغرفة التي أتواجد بها، وكنت أسمعه أنينه الخافت ولفت انتباهي كثرة الحركة حوله، فتيقنت أنه من الأشخاص المهمين المبحوث عنهم، فاعتقدت أنه السرفاتي، وبعد حين سمعت أحد الجلادين يناديه باسم عبد اللطيف زروال، هذه العملية تمت ليلا ولساعات محدودة، بعد ذلك أخذوه ربما لمستشفى ابن سينا، نظرا لخطورة وضعه الصحي.
في الوضع الذي كنا فيه، لم نكن نفرق بين الليل والنهار، كل أوقاتنا ليلا لا نرى ضوء الفجر أو شروق شمس الصباج ولا نستطيع تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود. محرومون من رؤية ضوء النهار وحتى من ظلام الليل، فقد وضعوا على أعيننا خرقة قماش متسخة وأحكموا وثاقها، ولم يعلموا أن ضوء البصيرة، أهم أحيانا، من ضوء البصر، وهذا ما عجزوا عن انتزاعه منا، رغم كل ما فعلوه.
بسرعة استطاعنا التكيف مع وضعنا الجديد وبدأنا في إيجاد وسائل للصمود والحفاظ على الذات، فكان أهمها التمسك بالحياة وعدم فقد الأمل، رغم قساوة الظروف، وهذا ما شد من أزر من تسرب الشك لنفسه، مما ساهم في رفع معنوياتنا، وحولنا ما نحن فيه إلى كوميديا أبطالها الجلادون وحراس المسلخ والمتفرجون نحن. فتم إختراع اسماء لحراس المسلخ نعرفهم بها، من خلال أصواتهم، مثل: (القوادة، نوض تبول، القرد، الزامل، الجبلى اعطي ليماه، الذيب، الفلاح، الفْلوس، المثقف… الخ)
وكان الشعراء ينظمون الشعر، صلاح الوديع، عبد القادر الشاوي، ومن ينظم الزجل، عبد الله زعزاع، وربما يوجد رفاق آخرون لهم إسهاماتهم، إما في الغناء أو التنكيت أو أي شيء يساهم في رفع منسوب جرعات الصمود.. وهناك من أعطى كل جهد تفكيره للوضع السياسي وكيفية خروج القوى التقدمية من أزمتها والتفافها حول برنامج للإنقاذ وللثورة الوطنية الديمقراطية، الرفيق المرحوم عبد السلام المودن.
كانت عملية التنسيق تتم بيننا بطرق مبتكرة وكنا نعرف من ذهب للاستنطاق حين نسمع صوت مشيته، كنا نميز مشية بعض الرفاق، كالمرحوم السرفاتي والمرحوم مداد مثلا.
كنا نتحايل على الجلادين ونتبادل الكلام، نستغل فرصة انشغالهم أو غفلتهم، فيتكلف أحدنا بالحراسة ويتبادل الباقي الحديث، والأحاديث ذو شجون في هذه المكان، وقد تكلفت أحد المرات بمهمة الحراسة، فقد كان ثقب غير مرئي في الخرقة التي أغلقوا بها عيني من خلالها أرى شبح الحارس حين يبدأ بالاقتراب، وقد سببت لي هذه المهمة انتفاخا في العين دام عدة أيام.
في المعتقل وجدنا من مكث هناك مدة طويلة، كالجعواني الذي اتهم بتهريب السلاح من الجزائر، سمعت عنه أنه كان شخصا قويا يخاف منه حراس المسلخ، وفرض عليهم إزالة البانضة على عينيه والقيد من يديه وخصصوا له زنزانة لوحده، هذا ما سمعت عنه ولم يحصل لي شرف رؤيته أو التعرف عليه. وقد سمعت عنه أنه يرفع من معنويات المعتقلين ويحثهم على الصمود. ومن بين من وجدناهم هناك، شقيق الجنرال أفقير كان قائدا في إحدى مناطق شرق المغرب، اعتقل بعد فشل محاولة انقلاب شقيقه، وهو شخص مسن هزيل الجسم معنوياته في الحضيض، هذا رأيته في أحد المرات.
ومن بين من وجدناهم أيضا شخص يسمونه أولعيد لا أعرف عنه أي شيء، هذا الشخص كان يساعد الحراس في توزيع الأكل على المحتجزين وفي بقية الأعمال الأخرى، كتنقية العدس والفول من بعض حصى الحجر، وليس كله. هذا الإنسان كان طيبا وفي أثناء توزيع الأكل كان يستغل الفرصة لتوصيل معلومة أو خبر، في غفلة عن الحراس.
للكلام بقية
ملاحظة لا بد منها:
أعتذر عن كل ما قد يرد في هذا السرد من الذاكرة مباشرة، من نسيان لبعض الأحداث أو لشخصيات ووقائع، وكذلك لأخطاء نحوية أو لغوية وربما حتى إملائية، لا أدعي الكمال ولا المعرفة، أحاول أن أسجل للتاريخ ما عرفته وعشته، بتواضع جم، حفظا لذاكرة جيل آمن بالحلم الجميل وشد على الجمر في سبيل تحقيقه، ولا زال، رغم ما لحق به من أذى، ليس من الأعداء والخصوم فقط، بل حتى من بعض الأصدقاء أيضا، سامحهم الله.
محمد فكري، الإسم الحركي البدوي ثم بوعزة في مرحلة لاحقة.