يوميات درب مولاي الشريف وغبيلة ـ 9 ـ
تكونت لدي فكرة عن السجن، سواء قبل الاعتقال، أو حين تواجدنا بمخفر درب مولاي الشريف، على أنه مكان يُحترم فيه المعتقل السياسي، ويجد تعاطفا ومساندة من بعض حراسه وموظفيه. وقد ترسخت عندي هذه الانطباعات، سواء من خلال قراءتي لبعض الروايات، أو مذكرات الوطنيين والمناضلين الذين مروا من هذه السجون، سواء في فترة الحماية أو بعدها، خصوصا رواية “سبعة أبواب” للمرحوم عبد الكريم غلاب، وكذلك بعض ما سمعته شفاهيا من أصدقائي من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنوات الستينيات، ولكن كما يقول المثل، ليس من رأى كمن سمع.
بعد الترحيب بنا من طرف “العاود” ورئيسه “الصبان” ومن معهما، أُخذنا، عبد الحفيظ الحبابي ورشيد فكاك وأنا ووُضعنا في أحد الزنازن أرضيتها بلا فراش إلى أن أحضروا لنا بعض الأغطية المهترئة، “كواش”، كما يسمونها، اتخذناها كفراش عساها تقينا برودة أرضية الزنزانة الضيقة، رمونا هناك دون أكل أو شراب لساعات طويلة قبل أن يأتوا لنا بخبزة يابسة، إذا ضربت بها أحدهم قد تسيل دماءه، وإناء من قصدير فيه سائل يشبه لونه تراب أرض يسميها الفلاحون “التيرس”، ووسط هذه المياه تسبح حبات عدس وذرات حصى وحشرة سوداء تسمى “الكوز”، كانت هذه هي وجبة اليوم كله. وضعونا في هذا المكان بشكل مؤقت، قبل أن يهيئوا ما يسمونه الحي الأوربي ويفرغوه من المقيمين به، ليصبح مكان ضيافتنا لما يقارب ثلاث سنوات.
وهذا المكان يشبه زقاقا ضيقا بممره الطويل وغرفه المصفوفة بأبوابها الحديدية الداكنة اللون.
وضعوني في إحدى غرف هذا الدهليز، لم أعد أتذكر رقمها، ربما 8 أو 24. أنا والرفاق عبد الحفيظ الحبابي والمرحوم عبد اللطيف حسني، والرفاق محمد المهدي ومصطفي بنسعيد، وعلى ما أذكر محمد فلوس ومحمد أزماني، إن لم تخني الذاكرة. وفي فترة لاحقة أقام معنا عبد القادر الشاوي ومحمد الغريسي.
هذا المكان، الذي أطلقنا عليه صفة غرفة تجاوزا، كان بداخله مرحاض دون باب يستر من يلجه لقضاء حاجته، يجب أن تتعود على إفراغ فضلاتك أمام أنظار رفاقك، وأن تتكيف مع شم روائح ما تلفظه أمعاءهم. ولهذه المراحض طرادات عجيبة، تطلق صفاراتها في وقت واحد وفي كل الزنازن وتحدث صوتا مزعجا يوقظ من كان نائما، والأخطر من هذا قد يفيض ماؤها في بعض الأحيان على الزنزانة ونحن نائمون. وهنا أشير لبعض الطرف التي وقعت لنا حين فاض علينا ماء المرحاض بسبب الطراد ونحن نائمون، استيقظنا مفزوعين وبدأنا في جمع أفرشتنا وأمتعتنا كي لا يصلها الماء، وبقي المرحوم عبد اللطيف حسني في فراشه ينادي بلهجته المحببة، “الكورفي الكورفي”. كنا في الزنزانة نتناوب على أعمال تنظيف أرضية الزنزانة وهذا يسمونه بلغة السجن “الكورفي”.. لروح رفيقنا عبد اللطيف حسني ابن البيضاء المحبب، السكينة والتحية والسلام.
في اليوم الأول الذي وزعونا فيه على هذه الزنازن وأعطونا “كواش” الفراش والغطاء، وزعوا علينا أيضا أواني قصديرية، يسمونها بلغتهم، الستيام، سألني أحدهم واش عندك الستيام، فاعتقدت أنه سألني هل جئت للسجن على متن حافلة الستيام.
أول شيء فعلناه بعد أن رتبنا مكان إقامتنا، هو التعرف على بعضنا البعض، لأن من تواجدت معهم لا أعرف أي واحد منهم من قبل، باستثناء عبد الحفيظ الحبابي الذي تربطني به علاقة صداقة منذ أيام الرابطة الفكرية بمراكش، ثم بعد ذلك داخل تنظيم 23 مارس الذي كان عضو لجنته الوطنية بعد إحدى الندوات التنظيمية التي انعقدت بمدينة الدار البيضاء وأطاحت بالقيادة السابقة عنها المكونة من المكتب السياسي، باقي رفاقي في الغرفة ينحدر أغلبهم من منطقة الشمال، طنجة، واد لاو، والمرحوم عبد اللطيف حسني من مدينة الدار البيضاء.
بعد استقرارنا بثوان، بعض الرفاق المدخنون شعروا برغبة وحاجة للتدخين ولا أحد لديه سيجارة، فكيف السبيل لإطفاء هذه الرغبة، فاقترح أحدهم أن يدخنوا “اللويزة” لأن طعمها وهي تحترق تشبه السيجارة الحقيقية، وقد كانت بعض أوراق اللويزة متوفرة في الزنزانة، نسيت من أين أتت، المهم، تم لف أوراق اللويزة في أوراق علب السكر، ودخنها المدخنون وأحسوا بعدها بنشوة، تكاد تقترب من نشوة سجارة التبغ الحقيقية. وحين جاء العاود وفتح الزنزانة لعدنا، وهذه العملية، العد، يقومون بها مرتين في اليوم، صباحا وفي المساء، وبشكل استثنائي، وربما لغرض استفزازنا، كانوا يمارسون عملية العد أكثر من مرتين في اليوم.. لما فتحوا علينا في ذلك اليوم وشموا رائحة اللويزة، قالوا إنها رائحة الكيف، فاستغلوها فرصة وقلٌَبوا الزنزانة رأسا على عقب بحثا عن الكيف، قلنا لهم إنها اللويزة فلم يصدقوا. وبعد التفتيش لم يجدوا شيئا، وهم يعرفون أننا بعيدون وبريئون من تناول المخدرات.
وتتوالى أيام وليالي وشهور سجن غبيلة، ويزداد الصمود ومقاومة الخوف وتحدي الطغيان بكل أنواعه وتجلياته..