ومع ذلك، نؤكد على أن الشيخ محمد بن سليمان كان ينصف شيخه محمد بن علي ولد أرزين أحيانا، ويعترف بفضله بين الفينة والأخرى وبشاعريته التي لا تجارى، وذلك على غرار قوله:
رَجْلِي عْلى اقْفَاتْ العُكـْلِي * حُجَّة إلى اوْطِيتْ ابن علي[14]
2/ الأمر الثاني الحاسم في حياة الشيخ ابن سليمان بعد وفاة والده، انطلاقة الشاب الغر في الحياة انطلاقة اللاهي العابث، حيث أصبح ماجنا مسرفا حتى تعب قلبه ومرض، ومات من جراء ذلك وهو ابن الثلاث وثلاثين سنة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد تضاربت الروايات حول عمره عند موته، هل مات وهو شاب جاوز الثلاثين سنة بقليل، أم امتد به العمر حتى جاوز السبعين سنة كما يقول البعض، ورغم أن إجماع الأشياخ والمهتمين كان على صغر سن الشاعر لحظة وافته المنية، حيث يقول الدكتور عباس الجراري مشيرا إلى هذه المسألة “… فلم يلبث ـ وهو في أول الشباب ـ أن انطلق للحياة اللاهية الماجنة في غلو وإسراف كانت نتيجتهما أن أصيب بداء القلب الذي أودى بحياته ولما يتجاوز الثلاثين من عمره…”[15]، أما الشيخ الحاج أحمد سهوم فيقول في هذه النازلة “…فلكأنني به يحس بإحساسه الصادق، أن هذا الحب القوي، العنيف المتنمر سيودي بحياته لا محالة، وكذلك كان، فلقد بكته حضيرة الملحون ولما ينتهي العقد الثالث من عمره، رحمه الله من شاب…”[16]. وهذا رأي غالبية الأشياخ والمهتمين، والذين يؤكدون على وفاة الشيخ في ريعان شبابه.
إلا أن هناك أقوال شذت عن هذه القاعدة، يشير من خلالها البعض إلى أن ابن سليمان لم يمت وهو صغير السن، بل كان عند موته قد جاوز التسعين سنة، مشيرين إلى أنه لا يعقل أن يكون هذا الشيخ الذي ذاع صيته على الألسن، واكتسب شهرة كبيرة، حتى اعترف له أشياخ وقته بالبراعة، خاصة عندما أخرسهم بقصائده الطنانة التي تحمل بصمة التجديد واختراق القواعد التقليدية ـ على سبيل المثال قصيدة “السنسلة” ـ يقولون أنه لا يمكن لمثل هذا الشيخ أن يكون قد مات في سن مبكرة، وقصائده تشهد على براعته المبهرة في النظم، فكيف تعلم كل هذا؟ ومتى اكتسب هذه الخبرة الكبيرة في هذا الميدان؟، ويستدلون على أنه لم يمت إلا بعد أن بلغ من الكبر عتيا بقراءتهم في قصيدتين لابن سليمان نفسه، استنتجوا منهما ـ كما يقولون ـ أن الشيخ لم يمت إلا بعد أن شارف على الثمانين سنة من عمره، القصيدة الأولى هي قصيدة “القلب”، والتي يقول في حربتها:
وَعْلَاشْ هَكْذَا صَابَرْ يَا قَلـْبِي * غِيرْ سَلـَّمْ فَطـْرِيقْ الحُبّْ مَا تْرَى بَاسْ[17]
حيث يقول في قسمها السادس:
قال ينا سيدي كَانُوا ازْمَانْ لـَجْوَادْ يِرَفـْعُوا شَانْ كـُلّْ نَاظـَمْ *
وَاليُومْ رِيتْ قوْلْ الشَّاعَرْ مَهْمُولْ * فـْجِيلْنَا غَابُوا هَلْ لعْقُولْ * مَا بْقَى مَنْ يَصْغَى للقولْ
أمَهْبَلـْنِي[18] فِي عَامْ شَرْط[19] فَأبَجَدْ بَالتَّحْقِيقْ * قَلبِي عَاشَقْ وَهْلْ الغْرَامْ طبْعِي عَرْفـُوهْ ارْقِيقْ
غِيرْ السَّاكـَنْ مَدْهِي عْلى اشْغَالـُه
شَغْلِي امْدِيحْ طهَ وَالهَزْلْ عْلِيهْ جَايْرْ أُوكَانْ * نَعْمْ الغْنِي الجُوَّادِي
يُوقِي مَنْ الهْزَلْ عَثْرَاتِي حَتَّى انْرُومْ لرْمَاسْ
ويستنتج أصحاب القول بأن ابن سليمان قد مات عن سن عالية، أن الشاعر قد أشار إلى تاريخ نظمه لقصيدة القلب بعام (شرط)، وهو الذي يوافق تسعة ومائتين وألف هجرية (1209هـ)، وأنه كان شابا غرا عندما نظم هذا النص، حيث لا يتجاوز عمره الثالثة والعشرين سنة، وعن ذلك يقول في سياق القصيدة: (أمهبلني في عام شرط)، وكلمة (أمهبلني) مأخوذة من (لهبال) وهو (الحمق) حسب اللهجة المغربية، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يصف نفسه بالشاب الغر الصغير السن، والذي لم تحنكه التجارب، وقد حدد السنة هاته بالحروف الأبجدية من خلال كلمة (شرط)، والتي عندما نخضعها ل(حِسَابِ الجُمَّلِ)[20] الذي كان يستعمله أشياخ الملحون كثيرا وكان شائعا بينهم، فإننا نحصل على التالي: فالكلمة الرمز هنا تتكون من ثلاثة حروف هي (ش ـ رـ ط)، حيث (حرف الشين) قيمته ألف (1000)، و(حرف الراء) يساوي مائتين (200)، أما (حرف الطاء) فقيمته تسعة (09)، ومجموع هذه الحروف التي تحدد لنا تاريخ كتابة النص هو تسعة ومائتين وألف، هكذا بالأعداد ( 1209 هـ) كما رصد ذلك المرحوم دلال الحسيكة الذي أخذنا عنه هذا النص، لكن برجوعنا إلى القصيدة، ومقاربتنا لهذا المقطع فيها، فإننا لم نجد ما يشير من خلاله الشيخ ابن سليمان إلى أنه كتب هذا النص في هذا التاريخ، حيث أشار فقط ـ حسب ما هو واضح ـ إلى أنه كان شابا غرا في هذه الفترة التاريخية، وقد يكون كتب هذا في أواخر حياته أو في أي فترة من فترات حياته على سبيل الإخبار فقط، كما لا نجد ما ينفي أن يكون قد كتبه أيضا في بداية حياته، مما يجعلنا لا نطمئن كثيرا لكون هذا النص قد كتب بالفعل في هذا التاريخ، ذلك أن هذا التاريخ يؤكد فقط على الفترة الزمنية التي كان فيها الشيخ شابا غرا بدون تجربة.
أما القصيدة الثانية فهي قصيدة “التوبة”، والتي اعتبرت من أواخر ما كتب ابن سليمان حسب الأشياخ والحفاظ والمهتمين بمجال الملحون، ويقول في حربتها:
أرَاسِي لَا تَشْقَى * يَا الطـَّامَعْ لَابُدّ مْنَ الفْرَاقْ * لَا تَامَنْ فَالدّنْيَا بْنَاسْهَا غَرَّارَا
حيث يقول في قسمها الأخير:
أحَــفّـــاظِــي نَــسْــقَـــا
وَارْتْوَى مَنْ مَايَا * فَنّْ فِي اطـْرِيزْ المَايَة * للغْشِيمْ دَرْتْ أوُصَايَة *
كِيفْ وَصَّاوْا اللـِّي قَبْلِي عْلَى الغْدَرْ * مَنْ اصْمِيمْ القَلْبْ وَالصّْدَر*
وَاللي هُو قَارِي * إِوَرَّخْ ارْمُوزِي وَاشْعَارِي * مَا اخْفَى شِيخِي نَجَّارِي *
لـْبِيبْ دِيوَانْ * وِيقُولْ ابْنْ سْلِيمَانْ
قـُلـُوا المَنْ اجْحَدْ مَا نَبَّتْ غُصْنُه أورَاقْ * مَالـُه ضَاعْ اخْطِيَة *
وُجَـــاحَــــدْ الـشـــعَـــارَا