إدريس الأندلسي
ينفق المغرب أزيد من 300 مليار درهم سنويا في مجال الصفقات لتجهيز البلاد و الحد من النقص الموجود في عدة قطاعات كالطرق و الماء و الكهرباء و النقل السككي و السكن و الصحة و غيرها من القطاعات. خلال العقدين الأخيرين تم ضخ أكثر من 2500 مليار درهم في ميزانية الإستثمار عبر ميزانية الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية. هل تم تدبيرها بالشكل الذي يضمن تحقيق الأهداف المسطرة؟ و هل استجابت المشاريع الممولة من المال العام سواء كان مصدره ضريبة أو استدانة داخلية أو خارجية لحاجيات البلاد الحقيقية؟.
المؤكد أن هناك نجاحات لا ينكرها إلا جاحد. نعم لدينا الميناء المتوسطي و بنياته الصناعية و اللوجستيكية. نعم لدينا شبكة طرق سيارة تم تصنيفها من الأفضل قاريا و من الواعدة و الآمنة عالميا. لدينا مطارات تتطور لاستقبال ملايين زوار البلاد كسياح و كمغاربة مقيمين بالخارج أو بالداخل. و هناك نجاحات أخرى ترتبط بمستوى الادماج الصناعي في قطاعات صناعة السيارات و الطائرات و الذي يتأكد عبر خلق سلاسل الإنتاج الأساسية و الثانوية. قد تتقوى البنية الصناعية، حسب ما تم الإعلان عنه، إلى الصناعات المتعلقة بالقطارات لخلق تراكم كذلك الذي حدث في القطاع الفرعي للسيارات.
كل هذا الذي تم إنجازه إيجابي. و لكن الأهم و الإستراتيجي هو ما يحيط بهذه الإرادة الإستثمارية من أدوات الحكامة عبر تدبير خارطة الإستثمار العمومي و المتابعة و الإشراف و التقييم وعدم برمجة المشاريع غير ذات الجدوى الإجتماعية و الإقتصادية و البيئية أو ما يسمى بالفيلة البيضاء. الحكامة هي تلك الآلية التي تربط بين عمليات الإنجاز الإقتصادي بكافة فروعه مع الإطار العام السياسي بقواعده الدستورية و بالممارسات على أرض الواقع لتنزيل هذه القواعد. و موضوع الصفقات يظل ذلك الجسم الذي حوله المرض التدبيري و الأخلاقي و ضعف المحاسبة إلى منطقة المرض المزمن في حالات عديدة. الأمر و ما فيه تركيز الحكومات المتعاقبة على تغيير مقتضيات مرسوم الصفقات العمومية. تجتهد الإدارات و مؤسسات الرقابة على المال العام و تتدخل الأمانة العامة للحكومة لصياغة النصوص بكياسة و مهنية. ثم يخرج المرسوم بتفصيل جزئيات و وضع حدود للتضييق على مجرمي الصفقات العمومية. فيجتهد هؤلاء لتطويق كل الإصلاحات بأدوات تحكمها المصالح و شبكات إتخاذ القرار. و يستمر الحال على ما هو عليه. المتعود على الاستيلاء على الصفقات يفعل فعله في المنظومة بذكاء أدوات اخضاع بعض ضعاف النفوس. و هكذا تراجع المغرب منذ سنوات في ترتيب الدول في مجال الرشوة ليصل سنة 2023 الى الرتبة 93 عالميا رغم إنشاء مؤسسة دستورية تهدف إلى محاربتها. تتفاوت الأرقام و تتناقض حول أرقام الرشوة و لكن بعض المؤسسات الدولية المهتمة بالموضوع تقدر حجمها بحوالي 2 % من الناتج الداخلي الإجمالي أي ما يقترب من 30 مليار درهم. الأمر يتجاوز الرشوة و ما تتركه من آثار سلبية على الإقتصاد و على تدمير البنيات الإدارية.
الأمر كبير و يتعلق بتقييم آثار التمويل الميزانياتي على التنمية . خسرنا الكثير من الرهانات على الكثير من القطاعات منذ السبعينيات. تعطلت كل الآليات بإسم المغربة و بإسم تطوير السياحة بالمال العمومي ، وباسم تطوير الصيد البحري عبر منح الرخص و المال العام لعلية القوم. و ظل الحال على ما هو عليه لأن ثقافة الريع هي العدو الأكبر لثقافة التنمية الحقيقية. و الصفقات العمومية هي ذلك الميدان الذي تدور حوله آليات تمركز سلطة القرار بإسم إحترام المساطر و القوانين التنظيمية.
و تستمر الصحافة الوطنية يوميا في رصد تحركات بعض النافذين الذين وصفتهم جريدة الصباح( عدد 7272) بعنوان مكتوب بالخط العريض بأنهم ” فوق قانون الصفقات العمومية و يتحكمون في مساطر طلبات العروض…”. و الأمر يتعلق حسب ” الصباح ” بصفقات المكتب الوطني للمطارات. الأمر يتعلق بوسائل مواجهة أي مكتب وطني أو إدارة عمومية بمقتضيات تتعلق أساسا بالعرض الأقل تكلفة. و هذا المفهوم تم تجاوزه منذ سنوات بالعرض ” الأحسن ” أي ذلك الذي يعتمد على تاريخ و قيمة إنجاز المقاولات و ما تمتلكه من وسائل بشرية و لوجيستيكية . كل هذا بالإضافة إلى ثقل برنامجها التنفيذي الأني حسب حجم المشاريع التي تنجزها في نفس الوقت. التكلفة الأقل قد تنطوي على كثير من الحيل القانونية التي تتسبب في تغييب حجم الأشغال الحقيقية و بالتالي مراجعة دفتر التحملات خلال مرحلة التنفيذ. و هنا تجد الإدارات العمومية نفسها ضعيفة أمام ضعف الدراسات التفصيلية و هذا يحصل بإستمرار في مجالات الطرق و المياه و الطاقة . و تدخل الآليات القانونية لتبيح إضافة ملاحق للعقد الأساسي مع ما يصاحبها من مراجعات للأسعار و كميات الأشغال. و بالطبع يظل المراقب رهين مساطر قليلا ما تسمح له بمواجهة لوبي صغير الحجم قوي التأثير. و هكذا تزداد الفاتورة ضخامة و قد تتأثر برمجة تنفيذ المشروع بفعل تناقص الموارد المالية المخصصة له عند الموافقة عليه مبدئيا.
قد تكون إرادة التغيير صادقة عبر استهداف الآليات القانونية و التقنية المنظمة للصفقات العمومية. و لكن هذا المنحى ابان عن ضعف هيكلي و ثقافي أمام قوة التدابير القانونية التي تهتم بالشكل و بإحترام المساطر. الأمر لا يستقيم بالوقوف عند الحدود الشكلية القانونية. الأمر لن يتغير إلا بالتوجه الصريح لإدارة إطار المحاسبة الحقيقية عن مصادر اغتناء البعض على حساب شعب. القوانين الحالية و تطبيقها لا يبشر بالخير و قد أكد وزير العدل على ضرورة الحد من نضالات جمعيات الدفاع عن المال العام عبر حرمانها من إمكانية الوقوف أمام المحاكم. هذا الوزير لا يريد أن يتم فضح المتلاعبين بالشأن العام و من خلاله بالمال العام. هذه الجمعيات هي قبل كل شيء ضمير حي في غياب محاسبة من استولوا على تسيير الشأن العام بإسم أصوات متحصل عليها “ديمقراطيا” . و لكن الزمن القضائي قد يؤذي الزمن المواطناتي و الثقة في المؤسسات. الأمر لا يتعلق بنزاهة القضاة و لكن بإغراقهم بملفات كثيرة و مكوث جزء كبير منها في مراحل الاستئناف و النقض لمدة طويلة. ولكن الخطاب حول الشفافية لم يعد ذا قدسية سياسية. في يومنا، بعض المفسدين و المستفيدين هم من يرفعون الصوت في البرلمان و المجالس الترابية لتطوير آليات الصراخ لدفن إرادة محاربة الفساد.
و لكن غياب تفعيل سؤال ” من أين لك هذا؟ ” أغرق الإدارات و الحكومات و كثير من المؤسسات في مستنقع الشكليات. ضحكوا علينا بتفعيل قانون التصريح بممتلكات المسؤولين عبر تخزين الملفات في أرشيف قد يصلح لباحث في التاريخ الإداري و ليس لمتابعة من راكموا الثروات دون أن تكون لهم أية علاقة مع الإستثمار أو التجارة أو أي نشاط إنتاجي. الصفقات العمومية و تدبيرها تعتبر مجرد جزء من ملف كبير يحبط كل الارادات التي تحمل رغبة التحول بالوطن إلى مراتب الاقتصادات الصاعدة. و هذا التحول هو أيضا ذو أهداف إستراتيجية لتحصين دولة الحق و القانون الحامية للحقوق و الواجبات لصالح الجميع و ليس لأقلية تهيمن على ثروات البلاد من خلال القرار و الموقع و الشبكة. غدا ستفعل الحكومة دعم السكن و سيظل السؤال هو القدرة على سيطرة القرار الحكومي على سوق العقار و تلك الهوة بين الواقع و ما يعلن عنه من أسعار شكلية في الإعلان عن العرض العقاري. نعم لإعلان الحرب على أعداء البلاد و في مقدمتهم من يلعبون خارج القانون و يساهمون في تفقير مواطنيهم و ” هم في طغيانهم يعمهون”. الدستور أعلن المحاسبة و علينا تفعيلها.