في الوقت الذي قطعت فيه دول مثل تركيا أشواطًا هائلة في التصنيع، وأصبحت تُنتج كل شيء تقريبًا، من السيارات إلى الأسلحة، ومن الآلات إلى الأجهزة الطبية، لا يزال المغرب يدور في حلقة مفرغة من الشعارات البراقة والمشاريع الموسمية. فما الذي يمنع بلادنا من أن تسلك طريقًا صناعيًا حقيقيًا؟ وأين يكمن الخلل في ما يُسمى بالسياسة الصناعية المغربية؟
ما يتم الترويج له من قصص نجاح، كصناعة السيارات أو الطائرات، ليس سوى واجهة جميلة تُخفي خلفها هشاشة واضحة. نعم، المغرب يُصدّر سيارات، لكنه في الواقع لا يُصنّعها من الألف إلى الياء، بل يُركّبها. فالصناعة الحقيقية هي التي تمتلك السيادة على المعرفة، وعلى القطع، وعلى التصميم، وعلى التكنولوجيا، لا أن نكتفي بلعب دور “المُجمّع”.
والأدهى من ذلك أن هذه الصناعات متمركزة في جهات محددة، ولا أثر لها في باقي التراب الوطني. فماذا عن درعة تافيلالت، وفكيك، ودمنات، وورزازات؟ هل المواطن هناك مستفيد من هذا “الإقلاع الصناعي” الذي لا يطال إلا محور طنجة – الدار البيضاء؟
تركيا لم تنتظر الاستثمارات الأجنبية لتُقلع، بل وضعت رؤية وطنية سيادية، عمادها أن تكون الصناعة مدخلًا للاستقلال الاقتصادي، لا مجرد وسيلة لجلب العملة الصعبة. بدأت بدعم الصناعات المحلية، وفرضت نسب إدماج مرتفعة، واستثمرت في التعليم التكنولوجي، وشجعت الابتكار المحلي.
أما في المغرب، فقد تم ربط مستقبل الصناعة برغبة الشركات الأجنبية، وتم تهميش المقاولات الصغيرة، مع غياب سياسة حمائية حقيقية. لم تكن هناك إرادة لتصنيع وطن مستقل، بل فقط تلميع واجهة الاقتصاد ببعض الأرقام والاتفاقيات.
المسؤولية مشتركة، لكن في مقدمتها تقع على الحكومات المتعاقبة التي اختارت الاستسهال بدل البناء، والاستيراد بدل الإنتاج. فضّلت جلب الاستثمارات الخارجية بدل خلق صناعة وطنية تنافسية ومستقلة. اختارت العناوين الكبرى والافتتاحيات الاحتفالية، بدل التمكين الحقيقي للمقاولين الشباب والمهندسين والعقول المغربية.
نريد سياسة صناعية وطنية عادلة، لا تُهمّش الجهات ولا تُكرّس التبعية. نريد مصانع تخرج من الأرض المغربية، لا من دفاتر شركات عالمية. نريد الاستثمار في الذكاء الصناعي المغربي، وفي التعليم التقني، وفي خلق منظومات صناعية قادرة على الصمود والابتكار. نريد رؤية، لا رقعًا؛ مشروعًا وطنيًا، لا تسويقات إعلامية.
تمتلك الصناعة التقليدية في المغرب واحدة من أغنى وأعرق التقاليد الحرفية في العالم، من الزليج والنقش على الخشب والمعادن، إلى النسيج والجلد والخزف. ورغم هذا الرصيد الثقافي والمهني الهائل، لم تتحول هذه الكنوز إلى صناعة حقيقية حديثة قادرة على المنافسة عالميًا، بل تم اختزالها في “منتوج سياحي” يُقدَّم في الأسواق العتيقة ويُستعرض في المهرجانات كجزء من الفولكلور الوطني.
الخلل في غياب استراتيجية صناعية واضحة ومندمجة تُعلي من قيمة الحرفة وتُخرجها من منطق العيش اليومي إلى منطق الاقتصاد والإبداع. الصناع التقليديون اليوم يشتغلون في ظروف هشة، بلا تغطية اجتماعية حقيقية، ولا آليات تمويل، ولا مواكبة تقنية أو تسويقية.
كل ما جرى هو تحويل هذا القطاع إلى بطاقة بريدية تُستعمل في الدعاية السياحية، بدل الاستثمار فيه كرافعة اقتصادية متينة، يمكن أن تُشغّل الآلاف وتُصدّر للعالم إبداعًا مغربيًا يحمل الجودة، لا فقط الطابع التقليدي. لأن الدولة اختارت الترويج للصناعة التقليدية بوصفها تراثًا، لا صناعة. في الوقت الذي طورت فيه دول مثل الهند وإندونيسيا والصين صناعات يدوية محلية بتقنيات حديثة، وخلقت علامات تجارية عالمية، ظل المغرب يدور في دائرة المنتج التقليدي الموجَّه للسائح، لا للمستهلك العالمي.
الانطلاق من فهم جديد للصناعة التقليدية كرافد اقتصادي، يحتاج إلى التأطير، والتقنين، والابتكار، والتسويق الرقمي، والولوج إلى الأسواق العالمية، وتكوين حقيقي للصناع، وتحفيز الشباب على خوض غمار هذه الحرف برؤية حديثة. إن تراثنا الحرفي ليس مجرد فولكلور يُزيّن البازارات، بل مشروع حضاري واقتصادي ضخم… إن توفرت الإرادة.
ورغم أن مراكش تُعد ثالث أكبر مدينة مغربية من حيث عدد السكان وأهميتها الاقتصادية، إلا أنها ظلت تقريبًا خارج الخريطة الصناعية الحقيقية. لا توجد بها منطقة صناعية حديثة بالمعايير الوطنية أو الدولية، ولا تحتضن مشاريع صناعية كبرى قادرة على خلق مناصب شغل مستدامة أو تحفيز الاقتصاد المحلي. المدينة التي تعج بالسياح وتُضخ فيها مليارات الدراهم سنويًا، لا تستفيد من مردود اقتصادي متوازن، ولا تُترجم تلك الحركة إلى إنتاج صناعي فعلي.
القطاع الصناعي في مراكش، إن وُجد، فهو هامشي، مشتت، ومبني أساسًا على أنشطة صغيرة أو متوسطة، دون أي دعم مؤسساتي جدي، أو رؤية مهيكلة. وحتى الصناعات التقليدية، التي كان من الممكن أن تشكل قاعدة لانطلاق صناعة إبداعية حديثة، تم التعامل معها كديكور سياحي فقط، لا كرافعة اقتصادية.