إدريس الأندلسي
(حديث أرقام تسليع الولوج إلى العلاجات )
قال رئيس إتحاد العيادات الخاصة قبل أسابيع أن القطاع الخاص لن يضطلع بمحاربة الفقر. و لا أدري من قال له ، أو اوعز إليه أن المطلوب مساهمته في محاربة الفقر. من يريد أن يساهم في تحسين أوضاع أبناء بلاده، و يبذل الغالي و النفيس، تحركه قناعات و إيمان بقيم التضامن و الوعي بمستقبل البلاد . و دور الدولة في محاربة هذا الفقر هو الأهم، بموجب القانون الأسمى للبلاد. هذا القانون لا يخضع للتفاوض داخل دهاليز البرلمان، و لكنه يخضع للصندوق الشعبي عبر الاستفتاء المباشر. أغلب المغاربة يعرفون ممارسات بعض العيادات الخاصة. يتعرضون، و هم في لحظات ضعف و هشاشة، لدفع أموال دون فاتورة، و شيك ضمان يحرمه القانون، و لا يجدون من يحميهم و هم في وضعية لا ترضاها و لا تتمناها لألذ الأعداء. لا أقول هذا من فراغ و لكن انطلاقا من تجارب ميدانية. لا أنكر أن الخدمة الصحية كانت في المستوى في كثير من المصحات، و لكنني خضعت لثقل فاتورة و و امضيت على شيك ضمان رغم هشاشة مالية يعيشها كل ذوي الدخل المحدود أمام المرض. و لن أخفي أنني واجهت الظلم باللجوء إلى المؤسسات. و غيري سقط في فخ نصب له و تمت محاسبته بعدم وجود رصيد في حسابه. لذلك تظل مواجهة الممارسات، غير الشفافة، من المداخل لمحاربة الفقر و الهشاشة أمام المرض.
يجب التحدث بالأرقام حتى يتضح المشهد العام. لا زال حوالي 8،5 مليون مغربي خارج الإستفادة من الحماية الصحية بسبب ” عدم التسجيل أو وجود حالات تصنف ضمن الحقوق المغلقة” حسب آخر تقرير للمجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي ( أكتوبر 2024). يضيف نفس التقرير أن الأسر التي تتوفر على تأمين إجباري عن المرض تتحمل 50% من إجمالي المصاريف الصحية. و لا يمكن عدم الإشارة المؤكدة إلى أن أكثر من 95% نفقات أنظمة التأمين عن المرض بالقطاع الخاص، و أكثر من 80% من نفس النفقات بالقطاع العام يستفيد منها مقدمو العلاجات المنتمين للقطاع الخاص. و لا تستفيد المستشفيات العمومية و الوحدات الطبية للتعاضديات لا تستفيد إلا بالقليل رغم الاستثمارات العمومية في القطاع الصحي. و لكن نوعية الخدمات و صعوبة الولوج إلى العلاجات في المستشفى العمومي تفسر جزءا من أسباب هذا الواقع. و سيظل سؤال حضور الطبيب الموظف العمومي في المستشفى الخصوصي محرجا لكل مكونات المنظومة الصحية.
مررت الحكومات المتعاقبة منذ سنوات كثيرا من القوانين. تم تضمين القانون المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض مقتضيات تناقض الدستور و الاتفاقيات الدولية التي وافقت عليها المملكة ، و حاول أصحاب ” الشكارة” قتل النظام التعاضدي و الإقتصاد التضامني الإجتماعي. فتح القانون 13 – 131 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، الباب مشرعا لغير الأطباء للإستثمار. قال أصحاب النيات الحسنة أن هذا القانون سيوسع العرض الصحي. و كان ما كان من الضغط الممنهج للحد من عمل التعاضديات و حصول القطاع الخاص على أكثر من حصة الأسد، و كافة الحيوانات المفترسة ، من أموال التأمين الإجباري عن المرض. و قد أكد التقرير الأخير للمجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي حول التغطية الإجتماعية على أن العمل لا زال مطلوبا للوصول إلى أهداف المخطط الاستراتيجي الذي وضعه ملك البلاد. الأسر لا زالت تتحمل الجزء الأكبر من تكاليف العلاجات رغم وجود أنظمة متعددة للتغطية الصحية. و قال هذا التقرير أن تكلفة العلاج بالقطاع الخاص تتجاوز أكثر من خمس مرات التكلفة بالقطاع العام.
و منذ 2005 و القانون 00- 65 المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض يشكل، من خلال بعض مواده، و على الخصوص المادة 44، العائق الأساسي لتطوير الخدمات الصحية للتعاضديات بغير ذي وجه حق. و يتم تجاهل هشاشة القدرة الشرائية للأسر و عدم تمكنهم من تسبيق مصاريف الولوج إلى العلاجات. و يتم التضييق على تقديم التعاضديات لخدمة علاجية بأسعار تعاضدية و توسيع خدماتها لخدمة من يوجدون على هامش الولوج إلى خدمات تتطلب الأموال للاستفادة منها. و يجد هذا التضييق صمتا رهيبا لدى السلطتين التشريعية و التنفيذية. و يدفع هذا الصمت و التعنت للقضاء على التعاضديات إلى التساؤل حول رغبة مؤكدة لتسليع الخدمات الصحية و القضاء على كل إرادة تضامنية للحفاظ على صحة المواطن. و نجد في نفس الوقت اهتماما كبيرا لأصحاب ” الشكارة” لتسليع التعليم بمساعدة الدولة الفرنسية التي تمنح تراخيصها للسيطرة على شبكة مدارس تتسع بشكل سريع. و أصحاب هذه المدارس يبيعون منهجا و اسما تجاريا و يفرضون ” سلعة” مربحة جدا جدا جدا. و هكذا يتحول المواطن إلى زبون و مرتع للأرباح في قطاعي الصحة و التعليم. و ستظل سلع القطاع الخاص مطلوبة ما دامت موجهة لطبقة قادرة على أداء الأموال التي يتطلبها الولوج إلى العلاجات و التعليم المؤدي إلى التميز و الارتقاء الطبقي.
و شكلت سنة 2021 منطلقا لفتح كل الاوراش المتعلقة بالتغطية الإجتماعية و الصحية. أكد الدستور في مادته الواحدة و الثلاثين على الولوج إلى العلاجات. و أكد ملك البلاد على أهمية ثقافة التعاضد في الاستجابة لفئات كثيرة من المغاربة و ثمن تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على أهمية الركائز الثلاث في مجال الخدمات الصحية و تلك المتعلقة بالتغطية الإجتماعية ببلادنا. و تراجع المستشفى العمومي رغم كل الميزانيات، و ترك أمر تدبير أزمات كليات الطب إلى زمن التقنوقراط حتى ضاع زمن التكوين، و اهتزت أركان الثقة في إحدى المؤسسات و مكتسبات المغرب و هي كليات الطب.
سنظل نتفرج على عملية هدم ممنهج للمستشفى العمومي و للمدرسة العمومية و لأنظمة التعاضد في مجال التغطية الإجتماعية. سنظل نتفرج على هروب كثير من الأطباء جهارا إلى مصحات خاصة. سنظل نتفرج على مواطنين ينتظرون بالآلاف موعدا في مستشفى عمومي. قبل شهور وصلتني وثيقة عن موعد لإجراء ” تخطيط للقلب ” وصل امده إلى أكثر من عام. نعم نشاهد أوراشا كبرى، مهمة و كبيرة، و لكننا نريد خدمات صحية كبرى. و على من يشك في انتظارات المواطن المغربي أن يذهب إلى المستشفيات الإقليمية و الجهوية و الجامعية لكي يرى و يكون شاهدا على درجة المعاناة. افيقي يا حكومة ” الكفاءات ” ، ففي عهدك ، و حتى قبلك، شهدنا هجوما على التعاضديات، و على المؤسسات التعليمية، و على القوة الشرائية. لا ندري ان كانت أحزاب الحكومة، أو كل الأحزاب قد ضاقت ذرعا بكل مطالب المواطنين، و أصبحت توزع الأوهام بدل الأعمال. اشتعلت أسعار الدواء و العلاج و الولوج إلى التعليم، و ظلت الأبواق تصدح بكون المواطن يعيش في بحبوحة عيش كريم. ” اللي حشمو ماتو”. من يريد تحويل التربية و التعليم و الصحة إلى مجرد سلعة ،فقط لا غير ،يريد بالأساس الإضرار بالمواطن. لماذا نمعن في منع التعاضديات لكي تلعب دورها التضامني حسب ما يحتمه دستور البلاد من أجل العباد .
أصبح كاهل الدولة هو المطلوب لتقديم الدعم لذوي الدخل المحدود. جاهد عاهل البلاد لوضع أسس التغطية الإجتماعية ، و على كل المؤسسات العمومية و الخاصة اتباع منهجه في مغرب يتسع لكل المغاربة و ليس لخاصتهم فقط.