إهداء إلى روح عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي
رصد الناقد الفني المغربي، بوجمعة أشفري، في مؤلف صدر حديثا بعنوان “العين والنسيان” في جزء أول، تجارب تسع فنانات اختلفت اتجاهاتهن الفنية، والكتاب من القطع المتوسط، يجمع بين دفتيه تأملات جمالية في رؤية فنية تستعرض التعابير الجمالية المختلفة من تشكيل ونحت وبيرفورمانس، واختار أيقونات عالمية من قبيل مارينا أبراموفيتش، وجوزي ماري غوا، وكيين سوهال، وإكرام القباج، ونينار إسبر، وكوليت دوبلي، وآنيكور كيدجيان، وكنزة بنجلون، وليلى الشرقاوي. ولم يفت بوجمعة أشفري أن يهدي هذا الكتاب إلى روح عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي،” كأريج أو كحلم متوار عن الأبصار لكنه سرمدي الأثر”.
ونحن نغوص في هذه التجارب أثارتنا صورة الغلاف من تصميم المؤلف ذاته وعمل للفنان الأرجنتيني إدواردو سيلبشتاين.
وكتب الناقد الجمالي بوجمعة أشفري في استهلال رصع به منجزه الفني، بعنوان “عين (لا) ترى” ما يلي: ثمة جسد يسير في اتجاه ما يبدو أنه لمع نور ينبعث من شق في العتمة.. ثمة يد تمسح العتمة لينتشر اللمع.. ثمة سؤال يتثاءب: هل السير في اتجاه شيء ما ولوج إلى العالم، أم انسحاب منه؟ ثمة تواطؤ سيكون مآله العمى والمحو. نسيان ما لم يحدث بعد.
عند وسط السير في اتجاه سند ما (support)تبرز خطوط جذب وحركات تلمح لك من بعيد بالترحيل: ترحيل جسد بدون أعضاء، لأنه أثناء قيامه بهذا العمل يصبح هو نفسه عضوا.
ما لذي يمكن أن تصيره حركة صباغية يمنحها هذا الجسد/ العضو شكلا، ملمحا أو هيئات هلامية؟
أيمكننا أن نحول حركة واقعية، وندفع بها إلى/ في اتجاه أحشاء سند أو قماش، كي تصير حركة صباغية تشير إلى شيء ما كان هنا وامحى؟ هل” يبغي دائما أن نذهب بعيدا كي نقبض على البصر”.
تجيء الحركة من رغبة في توطين وترحيل الطفولة في/ إلى السند/ القماش.. لكن شرط ألا نغلق منافذ الخارج والداخل على عمليتي التوطين والترحيل. ففي بطن السند/ القماش (وفي الخارج أيضا) يكمن جذمور الطفولة.
من الأزرق تلوح في البعد قامات لكائنات آدمية، لا نعرف أهي ذاهبة إلى العمق أو آتية إلى السطح، وحين نتطلع إليها، قصد استكشاف بواطنها، يتحول الأزرق إلى اللون الرمادي، ويتم تأجيل رغبة التعرف على الملامح إلى حين التهام الرمادي للسطح.
تأجيل الرغبة هو استمرار لها، ذلك لأن انسدال الرمادي يزيد من حدتها، ويتطلب إصغاء بصريا لدبيب خطوات والتواءات الكائنات الآدمية، نزول الرمادي يستدعي أيضا الدخول في حالة عمى، حيث تعبر لذة الاستكشاف من حاسة البصر إلى حاسة اللمس. هنا تبدأ التلميحات والتوشيات الحمراء، وأحيانا تكون بيضاء، تلمع على حواف الكائنات المنغرسة في الرمادي.
غالبا ما يقال إن الرمادي يمنح الإحساس بالقتامة، باعتباره حالة وسطى بين الأبيض والأسود، فلا الضوء يتزيا به، ولا العتمة تغشاه. إنه فجيعة الألوان.
حركات اليد خارج /داخل السند/ القماش، أو في مباشرتها لمواد النحت أو التنصيبات، تنتج عما يعتمل في “معمل الجسد”، والجسد كما يقول دولوز وكواتاري “ينتج الطاقة والحرارة والأصوات”، كما ينتج كذلك الأشكال والهيئات والأطياف.. الرغبة، إذا، هي محل انفعال الجسد.. محل سالب/ سائل لا يتجمد، الرغبة لا سابق ولا لاحق لها.
يسير الشاعر والفنان معا في محاولة منهما للقبض على الأثر الذي ما إن يظهر حتى يختفي. يسيران، يتنازعان يفترقان ويلتقيان، ثم يتساءلان: ما الذي حدث أثناء توطين الآثار وترحيلها؟
هكذا حاول بوجمعة اشفري ان يحتفي بهؤلاء الأيقونات من خلال رؤية فنية، زاوجت بين التحليل البنيوي وتفرد كل تجربة سواء كانت بصرية أو نحتية. ومن بين التجارب النحتية نستحضر أعمال الفنانة إكرام القباج، إذ عنون منجزها ببيت من شعر أدونيس:” حجر وجهي ولن أعشق غير الحجر”، عن تجربتها يقول الكاتب والناقد الجمالي اشفري:” يبدو ان علاقة النحاتة إكرام القباج بالمواد التي تشتغل عليها، خاصة الحجر، تعود إلى زمن الطفولة، زمن الفضاءات المشرعة على الخارج، زمن فسح اللعب واللهو، زمن البنايات التي لا تحجب أفق البصر والنظر. كان الحجر زمنها مادة للعب، وكان الخشب أيضا مادة للعب… وكان الركض في اتجاه أفق القبض على الغمر…
بهذا الأفق الجمالي حوى الكتاب تجارب كل هؤلاء الفنانات، اللواتي انفردت كل واحدة منهن بخصوصية ذاتية وأسلوبية، حتى صرنا نؤكد أن الفنانة هي الأسلوب.
في تأملات الجزء الأول من “العين والنسيان” ركب بوجمعة أشفري رهان الصعب، وأخرج لنا صورا ووجوها وتجارب لا يمكن أن تخطئها العين، وانتصر مرة أخرى للأعمال الجادة، التي تمكث في كبريات الأروقة العالمية، والأخرى التي تنتصب شامخة في الساحات تسر الناظرين فتنة وألقا وجمالا.