آخر الأخبار

الغدد الضوئية

سعد سرحان 

إنّنا مدينون، دون أدنى شكّ، إلى العقل بمعظم ما وصلنا إليه، حتى لَيُمكن اعتباره أعظَمَ غُدّة في جسد الحياة، إِذْ مَنْ غيره يفرز حولنا كلَّ هذا الضوء؟ لذلك، فإنَّ ذوي العقول الجبّارة تمتّعوا، في كلّ زمان وكلّ مكان، بإجلال لا ينفد وهالة لا تأفل، وحتى الذين كانوا منهم عُرضة للظّلم والظّلام، وجدوا دائمًا من يُخرج أسماءهم من الخمول إلى الخلود. إنّ المصباح الذي يضيء الآن بكبسة زرّ، إنّما هو حفيد الشّرارة الأولى، وقد انحدر إلينا من تلك السّلالة العظيمة التي انطلقت قبل آلاف السنين، يتقدّمها حامل المشعل في ليل العالم. وليست الرّحلة من النّار إلى الكهرباء سوى الموجز، موجز الحضارة الإنسانية، أمّا التفاصيل، فمن الحمق مجرّد التفكير في حصرها.يقينًا أنّ اجتراح الضوء كان حلمًا سماويًّا، مصدره الشمسُ نهارًا والقمرُ والنجوم ليلًا. لذلك بات عاديًّا أن نسمع عن إطلاق أقمار اصطناعيّة في الفضاء. أمّا الشمس الاصطناعية، شمس الإنسان الأولى، فهي الآن قيد اللّمسات الأخيرة. ولذلك أيضًا، فإنّ الإنسان، عرّاب هذه المغامرة العظيمة، ما إن يلمع في مجال من المجالات حتى يُسمّى نجمًا.إنّ الضوء الفعلي الذي نعيش في كَنَفه الآن، إنّما هو نتيجة الضوء المجازي المعروف بالعلم، ولأنّ هذا مشحون دومًا بالعقل، فهو بطّاريّة لذاك، بطّاريّةٌ سرمديّةُ الخصوبة.وإذا كان العلم هو مخطوطة الإنسان التي بلا حدود، والتي أَوْسَعها زيادةً وتنقيحًا عبر العصور، وسيظلّ يفعل ما ظلّ يحيا، فإنّ تحقيقها المستمر هو ما يرقى بالحياة في مدارج الحضارة. فالريّاضيات والفيزياء والكيمياء على سبيل التقدير، ما كان لها أن تحظى بما تحظى به لو ظلت حبيسة المخطوطة تلك، رغم ما تشغله من حيّز جليل، لولا تحقيقها المدهش الذي أسفر عن الطريق السيّار وآلة الغسيل وحبّة الدّواء…وهو التحقيق الذي بات معه كلّ رغد الأزمنة السابقة يبدو شظفًا موصوفًا مقارنةً مع رغد أيّامنا هذه. وقد لا ننتظر طويلًا قبل أن نشهد تنزيل المرآة الفريدة التي سيرى فيها المستحيلُ، أيُّ مستحيلٍ، كم هو مُمكنٌ.غير أنّ هذه الطبعة من الحضارة الإنسانية، التي نرفل بين سطورها الآن، ليست، قطعًا، هي الأعمال الكاملة للعقل. ذلك أنّ بها صفحاتٍ رائعةً خطّها الحلم والخيال والجنون… وهي الغدد السّحرية التي يعرف الجميع ما أفرزت، ولا أحد يعرف ما تفرز غدًا. ولعلّ هذه الصّفحات، في مُدَّتنا هاته، هي ما يستغرق معظم وقتنا، إِذْ أنّ ما نقضيه أمام فتنتها يجِلُّ عن التقدير.وكما أنّ الطعام يستمدّ لذّته من النّار والتوابل والمُنَسِّمات… فإنّ الحياة، هذه الوجبة الفريدة التي لا يتناولها الإنسان مرّتين، تدين بمتعتها إلى الكثير من البهارات التي تجعل المرء لا يشبع منها أبدًا.ولنا أن نتخيّل حياةً قِوامها العقل فقط، لننحني إجلالًا لأوائل المجانين الذين سخّروا أطرافهم كيفما اتفق لغير السّعي والعمل، قبل أن تتفق لهم على ما يُعرف الآن بالرقص، والذين سخّروا حناجرهم لغير الكلام والصراخ فاجترحوا لنا الغناء، ولغيرهم مِمّن شطّوا بخيالهم وحواسّهم فأثّثوا عالمنا بهذا الرِّيّاش النفيس من مسرح وموسيقى ورياضة وأدب وتشكيل ونحت وأزياء وسينما وعطور وحليّ…إنّنا، حقًّا، مدينون لهؤلاء وأولئك بنفس القدر. ولَكَم نحن محظوظون بعيش هذه اللحظة النادرة من عمر البشريّة، اللحظة التي تستمدّ حرارتها من احتضان العقل للجنون ومعانقة العلم للحلم.