سـعـد سـرحـان.
الحجر الفلسفي
حين عرفت بالحجر الفلسفي أول مرة في حياتي، جعلته دون تردد أساسًا لصرح أحلامي، بعد أن حصلت عليه بنفس الطريقة التي حصلت بها قبله على الطاقية والمصباح والخاتم. ولمّا كان عليّ أن أجرّبه بأحسن طريقة ممكنة، فقد وضعته على جبل زلاغ، أكبرِ جبل في العالم بالنسبة لسطح بيتنا القديم، تمامًا كما هو المغرب، أجمل بلد في العالم، من سمائه.وإن هي إلّا لحظات حتى كنت أتسنّم جبلًا من ذهبٍ هو الذهب، وأرنو باحتقار دفين إلى أولئك الأغنياء الذين كانوا لا يستطيعون كبح ثرائهم عند محلّات الجزارة ومخافر الشرطة. ولست أذكر الآن ما إذا كان صنيعي قد انطلى أيضًا على سفح الجبل، حيث وادي المالح، فأردى ماءه لُجينًا أجاجًا. سوى أن حلمي ما لبث أن تحول إلى كابوس فاقع، ذلك أن تينَ الجبل وزيتونه، أطياره وأحجاره، أعشاشه وأعشابه، وغيرها من أسباب الخضرة والحياة اختفت جميعًا لصالح بريق صلدٍ وبلا مسام. هكذا أيقنت أن التراب هو أنفس المعادن، فركنت الحجر ذاك في غرفة المهملات، تمامًا كما فعلت من قبل مع طاقية الإخفاء حين أفسدت ظهوري الأنيق، وقد سهوت عن خلعها في الوقت المناسب.من حسن حظي أني تخلّصت من تلك الأشياء العجيبة في وقت باكر من حياتي، وبالضبط حين أدركتني تلك الحرفة التي أوقفت عليها خيالي كاملًا. ولأن العالم أكبر مني بكثير، فقد بلغ سن الرشد قبلي بقرون، فتخلّص من تلك المعجزات الخيالية في إحدى الزوايا المظلمة من تاريخه، وأنشأ معامل لصنع العجب العجاب والمستحيل الذي يجُبّ ما قبله، فصارت الحياة ترفل في بحبوحة من الرفاه والرغد لم تخطر على بال قمقم. فحتى مارد المصباح نفسه، لو قيض له أن ينبعث بيننا الآن، لبدا كنادل مضحك وهو يحضر صينية الدجاج تلكَ بلا شوكة ولا سكين ولا مناديل ورقية…الخيميائيون الجدد جعلوا روح الحجر ذاك تحُلّ في كثير غيره. فنجحوا، بذلك، في تحويل كل شيء إلى ذهب، من القمامة حتى الدم.طاقية الإخفاء صارت رقمية، وأصبح بإمكانها أن تحجب الهويّات والقنوات والطائرات حتى.الخاتم لم يعد يُجمع على خواتم، وإنما على أختامٍ قد يعود الواحد منها بسبأ ونواحيها وليس ببلقيس فقط.أما القمقم فقد تعددت أشكاله وأحجامه، ولم يعد ينفث دخّانًا كما في الأحاجي، وإنما يتجشّأ بخارًا غازيًّا هو سرّ نجاحه في جني أموال طائلة، جعلت منه الراعي الرسمي لكبريات التظاهرات، كما جعلت مَرَدَةَ الرياضة والفن والموضة يروّجون له صاغرين.
فساد الغذاء
لا أقصد بهذا العنوان البضائع منتهية الصلاحية التي قد تودي بآكلها إلى المستعجلات أو إلى المقابر، ولا التوابل المغشوشة التي تتحجّر في الكلى، ولا مقانق الكلاب التي تجعل مدمنها يرفع رِجلًا كلما همَّ بإفراغ متانته، ولا غيرها من الأوساخ الأخلاقية المتراكمة في هذا الباب… وإنّما أقصد ما أحدثه بعضهم من إفساد للثمر قبل الجني والأنعام قبل الذبح والنشء قبل النضج، وهو عندي شرّ يبدو أمامه إفساد الملح قابلًا للصفح.ففي أخبار منشورة أن ضيعة لإنتاج البطيخ عمد صاحبها إلى سقيها بمياه الصرف الصحي، لا لندرة المياه في المنطقة، وإنما لانعدام ماء وجهه، فإذا هي، كجلد شاسع موبوء، طافحةٌ بالبثور والدمامل من أحجام غير مألوفة. ولولا احتواء الموضوع في الوقت المناسب، لكان صديد تلك الدمامل قد فعل فعله في العباد.وفي أخرى، لا يرقى إليها الشك، أن نفس العباد حجّوا، وقد حل ذو الحجة، إلى أسواق البلاد، وفي نفس كل واحد منهم شيء من الأملح الأقرن لاستكمال الدِّين ولو بالدَّين… إلّا أن فرحة الناس بالعيد لم تكتمل، ففي أكثر من بيت أسفرت الذبيحة عن جيفة، فلا الرائحة رائحة أضحية ولا اللون لونها، ولو كانت تجوز بالحال التي هي عليها لجاز قبلها الخنزير والضبع وما عاف السبع.ولعلها المرة الأولى، منذ افتدى سيدنا إبراهيم ابنه، التي تُشاهد فيها الأضاحي مرمية جنب رفثها في القمامة على قارعة الطريق. ولأن الأمر جلل، إذ أين البطيخ من الضأن، كان لابد لجهة ما أن تنبري لتبريره. هكذا خرج علينا مكتب السّلامة يا مولانا التابع لوزارة الأمطار، فأفحم البلاد والعباد بأن الأمر يعود إلى ارتفاع الحرارة وسوء الذبح وبئس المصير.ومع أن الإسلام ظهر في شبه الجزيرة حيث الحرارة لا تنخفض والذبح مهنة قائمة الذات، ومع أن عيد الأضحى صادف فصل الصيف مئات المرات قبل ظهور الثلاجة والمجمد ومكيف الهواء، ومع أن الإسلام منتشر في مشارق الأرض ومغاربها ويعتنقه أكثر من مليار نسمة، ومع أن ما حدث حدث حصريًّا في المغرب، ولو كان حدث في غيره لتناهت إلينا رائحته كما تناهت رائحتنا إلى العالم.ومع كل هذا وغيره، فقد آثرنا السّلامة وصدّقنا مكتبها يا مولانا، ولم نَنْسَقْ مع رواية المغرضين التي تعزو ما حدث إلى الحقن والعلف وحبوب التسمين وما إلى ذلك من أراجيف. وكم تمنّينا لو أن وزارة الهلال الأبيض خرجت علينا هي الأخرى، فأفتتنا في أمر ديننا، فعرفنا منها مدى جواز الأملح الأقرن إذا أنتن، وهل يحِلُّ قربانًا ما فسد “قضبانًا”… سوى أنها لم تفعل، وحسنًا فعلت.وقبل هذه وتلك، قرأنا عن تلك العصابة التي كانت تعترض النساء في الصباح الباكر، قبل أن يذهب أفرادها، على متن سيارة خفيفة، إلى الدراسة في إحدى أعرق مدارس المهندسين. مثلما علمنا أن طالبات في الأقسام التحضيرية، تركن غرفهنّ في الداخلية تعج بالتعاويذ والطلاسم، قبل أن يلتحقن بمختلف المعاهد العليا. طلبة مهندسون يستعينون على قضاء حوائجهم بالنشل، وطالبات علوم لامعات يستعنّ على التفوق بالدجل. فمن أي قناة صرف صحي تمّ سقي أرواح هؤلاء، وأيُّ علف فاسد تناولت عقولهم؟ وإذا كان هذا هو حال الكرزة، فلنا أن نتخيل فوق أي كعكة هي. لقد أفسدنا النبات والحيوان والإنسان. ومع ذلك، ما زلنا نتساءل ببلاهة أمام مرايا أنفسنا : من أين جاء هذا المسخ؟
.