مــحــمــد الــطوكــي
تعتبر الطنجية المراكشية أي المغربية ، مظهرا من مظاهر خصوصية الحضارة المغربية فـي مجال فن الطبخ الغني و المتنوع الذي يزخر به المغرب ، و الذي يختلف باختلاف المناطق و اختلاف العناصر المكونة للهوية المغربية ، كما أتاح الموقع الجغرافـي المتميز للمغرب ، تفاعلا و انفتاحا على أصناف الطبخ الذي عرفته و تعرفه حضارة البحر الأبيض المتوسط شمالا، وإفريقيا جنوبا ، فتأثر وأثر .ونظرا لما تميزت به الطنجية قديما من خصوصية ، وشدة الإقبال عليها ، إلى حد أن غدت ظاهرة ، فقد اهتم بها بعض الفقهاء ، و اتخذها أديب مغربي موضوعا لمقامة مثل بها فنا من شعرية و جمالية النثر ، و تبعا لما تقدم فقد ارتأينا معالجة موضوعنا من خلال منظورين : أحدهما فقهي شرعي ، والثاني تخييلي أدبي .
أ – الطنجية فـي المنظور الفقهي :
قد يتعجب أو يعجب القارىء الكريم من اهتمام الفقهاء بما يدخل فـي بطون الناس من مأكول و مشروب ، و هذا الأمر ليس بغريب إذا عرفنا أن من بين القواعد الشرعية العامة المحافظة على الصحة النفسية و العضوية للإنسان، و حمايتهما من كل ما يتسبب فـي الإضرار بهما. فالقاعدة الفقهية تنص على أن الضرر يزال.و سنضع بين يديك منظومة ترجع إلى العصر المغربي الوسيط ، تدور حول الاحتياطات التي كانت تتبع حتى يطعمها صاحبها هنيئا مريئا من غير أن يصاب بضرر أو تسمم. وسنتبعها بالعواقب الصحية السلبية التي يمكن أن تحتـــف بالإقبال عليها فـي الوقت الراهن، والاحتياطات اللازم مراعاتها حسب ما قرره أهل الاختصاص .و هذا نص المنظومة التي ترجع إلى القرن 11هـ ، و هي لأبي عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المراكشي يقول :
فصل وقدر اللحم حين تمشي *** بها لتطبخ لدى الفرناطشي
فشرطها يا صاح شــد محكم *** بنحو كـــا غد و جلد يحزم
أو بغطاء العـــــود أو فخــار *** تلـــززا حفظا من الغبــار
و الصق العجين بالأطـراف *** لسد منفــــــذ بدا أو خــاف
و أدخلنها فـي الرمـــاد حتى *** يغيب ثلثها و كــــن ذا ثبتا
و نح عن رمادها ثـيابك *** فهـــــو منجس إذا أصــابك
إذ صاحب الحمام لا يسخنه *** فـي غالـــب الا بزبـــل يمكنه
ثم إذا ما طبخت فاجعــــلها *** فـي قــفة أو نحـــوها واغسلها
بصب ماء فوقها حتى يعم *** كــل الجوانب و سفـلا ولتضم
ورضه بدفع ما فـي العادة *** كشأن أهل الفضل و المجادة “1”
ب : الطنجية من المنظور الأدبي :
خصها أديب مغربي عاش فـي العصر العلوي بمقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، “الطنجية” و قبل أن نضعها بين يديك سنعمد إلى تحليلها مستهلينه بتعريف المقامة ، وترجمة منشئها.
1 : فالمقامة فـي اللغة هي “المجلس أو الجماعة من الناس يجتمعون فـي مجلس” “4” ، و عرفها الشربشي بأنها “الحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه ، لأن المستمعين للمحدث يكونون بين قائم و جالس ، و لأن المحدث يقوم ببعضه تارة و يجلس ببعضه أخرى” “5” . ويفرق أستاذنا المرحوم محمد بن تاويت بين المقامة و المجلس قائلا : ” إن كلمة مقامة من قام إذا وقف فهي إذن موقف وليست مجلسا كما قيل ، فالمجلس مرتبط بالتعليم يطول وقته ، ويمتد ساعات عديدة ، ولكن المقامة لا يزيد وقتها على دقائق معدودة ، وهذا ما جعل أول من ابتدعها يسميها بذلك الاسم ، إذ المقامة بذلك القصر الذي ذكرناه ، ثم إن موضوع المقامة يكون من البساطة بحيث لا يحتفل به احتفال الذين يجلسون لتلقي التعليم و قضاياه العويصة ، وكأن كلمة مجلس فـي هذا انبثقت فـي الإسلام ، من حديث جبريل ، بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ..الحديث ، لكن ما تحتوي عليه المقامة غالبا لا تقتضي ذلك ، بل يلقى على الواقفين المنسطين إلى صاحبه فـي الأسواق و نحوها غالبا وليس فـي المساجد” “6” . ذكر أبو عبد الله الأبي “أن أئمة تونس كانوا ينزهون المساجد عن قراءتها فيه” “6م”.من خلال التعاريف الثلاثة المتقدمة نرى ابن منظور ركز فـي تعريفه اللغوي البحت على فصلين أو سمتين : المكان، والناس الذين يعمرونه .بينما جاء تعريف الشربشي شارح مقامات الحريري مضيفا إلى تعريف ابن منظور مزيدا من التفصيل الحاضرين فـي المكان بين متكلم، وحدث كلامي ومستمعين بين قيام وجلوس .فباستثناء التعريف اللغوي الصرف لابن منظور ، نرى أن التعريفين الآخرين جمعا بين الدلالة اللغوية كما نص عليها ابن منظور وبعض الخصائص الاصطلاحية الشكلية للمقامة .
الدلالة الاصطلاحية :
يقول عبد الملك مرتاض : ” فلست أريد بالقصة – يشير إلى كتابه القصة فـي الأدب العربي القديم – إلا مقامات بديع الزمان الهمذاني و ليس غريبا أن تراني أطلقت عليها هذا الاطلاق الذي لم تألف، فما كان يراد بالمقامة فـي المفهوم القديم إلا الأقصوصة فـي المفهوم الجديد ” نشأ فـي القرن الرابع الهجري على يد بديع الزمان الهمذاني “7” .
وعرفها محمد السولامي قائلا : ” المقامة نمط تعبيري نثري ينهض أساسا على شخصية الراوي و شخصية البطل الجوال المغامر، ينجز بصيغ لفظية جاهزة و أساليب بلاغية عديدة ، أبرزها السجع ، و يعتمد على أحداث قلما تتميز بدرامية كتلك التي تسود باقي فنون القص “8” . فالتعريفان يدرجان المقامة داخل الفن القصصي، والتعريف الثاني زاد على سابقه مكونات الفن السردي .وفـي نظرنا فإن المقامة فن سردي بدائي أو بسيط”9″ من فنون شعرية النثر ، يمكن اعتباره مكونا جنينيا لفن الأقصوصة فـي الأدب العربي .
2 : صاحب مقامة الطنجية : هو أبو محمد و أبو نصر عبد القادر بن شقرون المكناسي “10” ” ت بعد 1140هـ = -1728م “، طبيب ماهر ، و فقيه متمكن ، و أديب بارع ، يقول عنه معاصره محمد بن الطيب العلمي ” 1134هـ – 1721م” شاعر مصيب ، رتع من البلاغة بمرعى خصيب ، وأحرز من الدراية أوفر نصيب، دخل بيوت العربية من أوضح المسالك ، و طرز فـي حديث السنن نحو ابن مالك بفقه مالك ، واختار الوحدة ، و انفرد بالخمول وحده ، و رغب عن الولدان ، و اعتزل الإخوان و الأخوان ، وضم إلى علم الأديان علم الأبدان ، فركب الأودية ، و انتشر له بين الحكماء أي ألوية ، و عرف الأمراض ، و أرسل سهام الرقى فأصابت الأغراض ، رحل إلى المشرق فأدى فرضه ، ثم رجع قاصدا أرضه ، فناهيك من علم اجتلب ، ومن درر نظم و در احتلب ” “11” .
ذلك ما انتهى إليه تحليلنا لمقامة الطنجية باستثناء مقطعها الخامس ، تناولنا فيه دلالة المقامة فـي اللغة وفـي اصطلاح الأدباء ، وبما أنها ضرب من السرد البسيط ، مقصديتها التحدي الأدبي و إثبات الذات فقد عمدنا إلى تحليلها اعتمادا على بعض المقولات أو المكونات السردية.