المبارك الگنوني
العِلْم رَحِم بيْن أَهلِه، فَأهلاً بِك أيها المتتبع اللبيب، مُفيدَاً وَمستفيدا،،مُشِيْعَاً لآدَابِ طَالِبِ العِلْمِ وَالهُدى،ملازما للأمَانَةِ العِلْمِيةِ، مسْتشعِرَاً أَن: (الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]،فَهَنِيْئَاً لَكَ سُلُوْكُ هَذَا السَّبِيْلِ؛ (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ]
تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.لذا ارتأيت أن أسلط الضوء ونكتشف معًا عبقرية فيلسوف وعالم ومفكرمغربي ترك بصمته في التاريخ ولم يأخذ نصيبه من الاهتمام اللازم .لقب من طرف المفكرين والفلاسفة الغربيين ب”الفيلسوف الصامت في الزمن الصاخب. إنه الفيلسوف والعلامة محمد بن أحمد الرافعي الأزموري الجديدي.
هوأحد أعلام دكُّالة في القرن العشرين، دائرة معارِف حَجَّ إليها الوُجهاء والعِلية والعلماء، وكَعْبة علمية صامِتة، استَجْلَبت بغزارة اطّلاعها وقوّة منطقها وصلابة مبادئها أنظارَ الصغار والكبار، يَرجِع بِنَسَبِهِ إلى قَبيلة بني رافع، المتوطِّنة بإقليم سيدي بنّور، على المحيط الأطلسي جنوب حاضرة الدار البيضاء المغربية.كان مولده بأزمور سنة 1884، تَيتَّم صغيراً، فَكَـفَله جَدّه الشيخ الحسن الأزموري، الذي كان فقيهاً وإماما بمساجد أزمور، وعلى يديه قَرأ حفيدُه امحمد الرافعي بعض السورالقرآنية واللغة العربية، ثم دَفع به للفقيه إسماعيل الـحُسيني فختَم على يديه القرآن الكريم؛ قراءةً وحِفظا.
تَلقّى تكوينَه العلمي الأوّلي في كتاتيب أزمور، وُسِمَ طِيلة مرحلة أخذ العلم بالتميز في العلوم العربية والشرعية، فحَضَّه أشياخه على الارتحال إلى فاس للدراسة بالقرويين. وفي المدينة العالِمة؛ الْتَقى خيرة طلبة المغرب، وتلقّى العلوم والـمَعارِف على يد كُلٍّ من العالِم أحمد بن الجيلالي، والفقيه أحمد بن الخياط الذي كان يُقدِّر تِلميذه الرافعي لدرجة أنْ قالَ في مَجمعٍ من علماء القرويين “لقد جاء (أي الرافعي) ليأخذ عنّا فأخَذْنا عنه”.
وعندما عاد إلى مسقط رأسه انكب على المطالعة والتحصيل خاصة وقد «أوتي الكثيرة من كمال القابلية والاستعداد الفطري، وبالاستغراق في المطالعة اكتسب ذلك العلم الواسع، لقد أوجد الفقيه الرافعي نفسه وكونها بطرائق قدداً كانت كلها ضرباً من الاعجاز فأصبحت شخصيته بحق مثال العبقرية التي تترعرع وتنمو بتوارد السنين». وذلك كما وصفه بعض معاصريه.كان الفقيه الرافعي رحمة الله عليه محدثاً ومفسراً بارعاً وأصولياً بارزاً «إنه عالم العلماء ومحدث المحدثين». وفي “الكناشة المخطوطة” للرافعي والموجودة بالخزانة العامة بالرباط (ك 1198) صفحات عديدة من علوم التفسير والحديث وأنواعه وعن رواته وما يتعلق بالسند والمتن، وجميعها تؤكد باعه الطويل في هذا المجال.
حرص الفقيه الرافعي على الاطلاع على الفلسفة الغربية، ومن بين الذين كان لهم دور في ترجمة مؤلفات الفلاسفة وأفكارهم: عبد الرحمن البنوري أستاذ بمعهد الدراسات العليا بالرباط، وقد أكد الأستاذ الحسن السايح بأن البنوري كان مسيحياً وأسلم، وأنه كان كثير الاتصال بالفقيه الرافعي والتردد عليه بالجديدة.لقد بلغ فقيهنا في الدراسات الفلسفية شأواً بعيداً كمايفهم ذلك من العبارات التي دونها عنه بعض معاصريه:«إن الرافعي قد زاول الفلسفة كثيراً ودرسها دراسة عميقة وتشبع من مذاهبها وآرائها، فتكيف بها فكره واصطبغ بها ذهنه». (القاضي السايح).
كما أنه «تخصص في علم الكلام وقد أعانه عليه اعتناؤه بمطالعة كتب الفلسفة القديمة». (العلامة عبد الحفيظ الفاسي).«لقد أدرك الرافعي غاية الإدراك أساطير الفلسفة في القديم والحديث، وعندما ظهر كتاب “قصة الفلسفة اليونانية” كان الرافعي يستدرك على أحمد أمين ونجيب محمود أشياء من صميم الفلسفة الإغريقية، وباختصار إن النبوغ المغربي قد ترعرع في الفقيه الرافعي». (ابن الحسن).
كان الفقيه الرافعي مؤرخاً حافظاً يضرب به المثل في دراسة تاريخ العالم وتاريخ النهضة الأوربية بوجه خاص «قرأ تاريخ ابن خلدون بأجزائه الضخام وعلق على كل صفحة من صفحاته، ولقد رأيت كل أجزاء ابن خلدون وكل صفحة من “ديوان العبر” مذيلة بالتعاليق التي كان يضعها الرافعي أثناء مطالعته لهذا الكتاب فتيقنت أن للرجل يداً طولى في فن التاريخ». (ابن الحسن).
«كتاب الرافعي في أعلى طبقة فصاحة وبلاغة عامرة بالمعاني مرصعة بالأمثال خالية من الحشو والركاكة مع حدة في القلم واللسان عند الانتقاد والاعتراض، إن للرافعي كنانيش كثيرة مع كتابة على هوامش الكثير من الكتب التي كان يطالعها وفي كليهما بحوثه وانتقاداته»، (العلامة عبد الحفيظ الفاسي).
«لقد رأيت “وفيات الأعيان” لابن خلكان تتزاحم جوانب صفحاتها بخط رديء كان هو خط الرافعي، ثم رأيته هو نفسه، فسمعته يذكر ما في “الأغاني” و”نهاية الأرب” فعلمت أنه أديب»، (ابن الحسن).
كان الرافعي يحفظ الكثير من دواوين العرب وأشعارهم وقد اعتمد عليه طالبه العربي المسعودي عندما كان يحضر الإجازة في الآداب بجامعة الجزائر كما أخبرني بذلك.أما الرافعي الناقد فقد كان «لا يتهيب الأفكار ولا يتردد في مصاولة الأقران بل يهجم على ما يخالف نظرياته هجوماً شأن الواثق بنظره العلمي»، (القاضي السايح).
«كثيراً ما كانت تجري بمجالس الرافعي بعض المباحث العلمية فيفور برسائل متدفقة علماً وتحقيقاً وتحريراً، وكثيراً ما كان يقوم بمطارحة المسائل العلمية ويوفد إلى علماء عصره سلسلة من المسائل الغامضة، فعندما ظهر للعالم أبي العباس أحمد بن المواز كتابه “حجة المنذرين” وجه إليه الرافعي سلسلة من الأسئلة في الموضوع فأجابه عنها ابن المواز برسالة سماها “دفع الوسواس عن مخالجة الأنفاس”» (القاضي السايح).
«لم تكن للرافعي مؤلفات وإنما كانت له رسائل كان يوجهها لبعض الأفراد… إلا أنه غالباً لا يحظى منهم بجواب لما كانوا يشمون فيها من رائحة التعنت ومحاولة التعجيز، وما ورد عليه من بعضهم قال إنه لم يرضه»، (العالم عبد الحفيظ الفاسي).
وعن اهتماماته بعلم الفلك أكد (ابن الحسن) وهو من تلامذة الرافعي «ثم زرته مرة ثانية فوجدته حائراً بربعه يبحث عن شؤون المشتري والمريخ فقلت إنه مغرم بما في السماء» ويضيف العربي المسعودي بأنه كان للرافعي اصطرلاب أهداه إياه المولى عبد الحفيظ وبأن رواد الرافعي من بلاد دكالة في هذا المجال كثيرون.ومن الجوانب الجديرة بالاهتمام هو أن الفقيه الرافعي كانت له صلات قوية مع عدد من كبار المستشرقين الفرنسيين الذين كانوا يزورونه بمدينة الجديدة، ومن هؤلاء حسبما ذكر لي العربي المسعودي:
– هنري ديكاستري: صاحب الموسوعة التاريخية: “المصادر الأصلية لتاريخ المغرب” (29 مجلداً).
– دوسان فال: أمين الخزانة العامة بباريز.- جورج كولان: المؤرخ الفرنسي، ومن تحقيقاته: “تاريخ الدولة السعدية”للمؤلف المجهول.- ماسينيون: ومن كتبه: “المغرب في مطلع القرن السادس عشر”.
– وليام مارسي: المستشرق الفرنسي.- بروفنصال: صاحب أول فهرس لمخطوطات الخزانة العامة بالرباط.