سـعـد سـرحـان
إن الفنان ذو القيثارة الأميرة ينشد مكانا دونه باقي الأمكنة، مكانا يسمح للأوتار أن تسعى برسائل روحه مفتوحة بعد أن فضتها أنامله. لقد جرب العزف في كل الأوقات وفي جل الأمكنة، فكان في كل مرة يحالفه الخذلان: ثمة دائما أصوات أخرى تشوب لحظاته فلا يدوزن نفسه كما يليق بفنان أن يفعل. حتى السكينة نفسها لم تكن ترضيه، فهي تضج بأنفاس الصمت. أين، إذن، سيفض بكارة روحه ويسفح موسيقاها أمام حواسه العطشى؟ ذات فجر امتشق الفنان قيثارته ويمم شطر غابة بعيدة ، فوسط أصواتها العذراء، ربما، يستطيع أن يمتحن فحولة أنامله والأوتار . لم تكن الفراسخ التي قطع مشيا على الأحلام قد نالت منه قبل أن يصل، فالألحان التي انتابته أثناء الطريق كان لها شكل الأجنحة.
داخل الغابة الموحشة، حيث الخوف نفسه لا يعدو كونه لحنا تمليه النفس على الجسد، لاحت له صخرة عالية. لا، لم تكن صخرة ،كانت عرشا. وأمام العرش الشاغر صارت للفنان خطوات ملك متوج، كلما تقدم تقترب القيثارة من حلمها الذي له بريق صولجان حقيقي.اعتلى الملك عرشه الصخري، ثم جعل يجيل النظر في مملكته الجديدة ويصيخ السمع إلى رعاياه من مختلف الأرواح، وبعد لحظات من الانتشاء بوضعه الجديد، تناول القيثارة وبدأ يخطب. كان خطابه الملكي معزوفة لم تنبس بمثلها أوتار، فمع كل نقرة كان يقشر روحه مثل فاكهة باذخة أمام مرآة لا يراها سواه . لقد التحم بقيثارته حتى صارت عضوا منه، فإذا أنغامها تصدر عنه صدور الوجيب والأنفاس… وإذا حواسه قد انعقدت حول روحه وهو يعزف حتى ما عاد يحس الغابة، تلك التي احتشدت بأسرها حول الصخرة لتبايعه بما ملكت من أصوات قبل أن تخلد للصمت والإصغاء.صار كل شيء يصغي : الأشجار، الأحجار، الطير، الماء، الأعشاب، الزواحف والظلال… حتى الضواري صارت تصغي.قيل : جاء نمر وأقعى أسفل الصخرة، ثم تلاه دب وذئب، فضبع وفيل، فثعلب وأرقط … جمهور من البراثن والأنياب كان صاغرا يصغي حتى كادت أن تأخذه سنة من العزف. وفجأة، لاح أسد خلف الصخرة. فوقف الجمع احتراما لمهابته. وما إن اقترب قليلا حتى ارتمى ارتماءته الملكية على الفنان وجعل يمزقه ويلغ في دمه.ملك يخلع ملكا.ملك يفترس ملكا. بوجوه عارية من الدهشة كان الرعايا يغادرون مسرح الانقلاب في صمت. لكأنهم كانوا يعرفون … لكأنهم كانوا يعرفون أن العزف السحري الذي أبطل مفعول غرائزهم جميعا لن ينجح مع ذلك الأسد، فحين ابتعدوا قليلا عن العرش الدموي بدأوا يتهامسون : كنت أعرف أن هذا الأصم سيفسد علينا السهرة، قال أحدهم لرفيقه.عادت الغابة إلى وشوشاتها ، وعلى الصخرة اختلط دم الفنان بدم قيثارته، أما أشلاؤهما فقد تناثرت أسفل العرش حيث لم يمر وقت طويل قبل أن تندلع منها شجيرة كمثرى.