إدربس الاندلسي
يجب أن نتذكر، بكثير من الوعي و الموضوعية ، أن العلاقات بين الدول تعني في المقام الأول تلك الروابط بين القادة أولا، و بين المؤسسات ثانيا، و بين الموظفين المكلفين بتنفيذ القرار السياسي و متابعته بكثير من المهنية و الخبرة ثالثا. يرجع الموقع الأول إلى قمة الهرم في القرار. و لنا في الفعل الملكي، خلال العقدين الأخيرين ، مثال صارخ و مؤسس و مثال على المنهاج الأصيل في التعامل مع الدول. فلنتذكر ذلك الرقم القياسي للزيارات الملكية إلى دول قارتنا الأفريقية. يدرك من يتابع الشأن الإقتصادي و السياسي أهمية العلاقات التي تبنى أولا على الإحترام المتبادل بين الدول . و يعرف هذا المتابع أن منهج الملك محمد السادس تأسس على رسملة تاريخ عميقة جذوره و متعددة أوجه صموده أمام اعاصير الصراعات السياسية. و تجاوزت الزيارات الملكية 60 زيارة دولة و عمل و عمل . و زادت الاتفاقيات المبرمة خلال هذه الزيارات إلى دول القارة على ألف اتفاقية تغطي قطاعات اقتصادية متنوعة. ازعجت هذه الزيارات بعض دول ” الغرب” و بعض من الجيران” الكسالى” الذين ظلوا سجيني بنية اقتصادية ريعية غير قادرة على خلق تعاون داخل القارة. و لكل هذا، اقتنع زعماء العديد من دول قارتنا بفعل الدولة المغربية و حضورها ممثلة بملك البلاد. و قد تم إشراك كل قيادات العمل الإقتصادي و التجاري و الجمعوي و الدبلوماسي و البرلماني في هذه الدينامية. و كان النجاح الذي سجلته الدولة يحتاج إلى عمل مواز و فعال و يومي لكل الفاعلين. تأسس نجاح المغرب الدبلوماسي على إرادة سياسية عليا تحمل قيم الصراحة و الأخوة و الإحترام المتبادل، و خصوصا مواصلة التعامل بكثير من الإستماع للآخر و تقدير انخراطه في تغيير نظرته إلى التعاون في شكله الجديد.
حطت الطائرة الملكية بمطار جمهورية جنوب السودان. نزل الملك، و قل أن ينزل بهذا الجزء من قارتنا، رئيس دولة. تواصلت الرحلات الملكية إلى غرب و شرق القارة و جنوبها. و أكد عاهل البلاد، خلال كل لقاءاته على دعم التعاون، وعلى أن نجاح أفريقيا لا يمكن أن يصنعه غير الأفريقي، و أن التعامل بين الحكومات و ممثلي القطاع الخاص يجب أن يبنى على قاعدة صريحة بعيدة عن المنح و العطايا و التعاون السلبي. رفع العاهل المغربي شعار ” رابح رابح ” ليطمئن شركاء المغرب على أن الأفريقي لن ينجح الا إذا كانت لديه ثقة في الأفريقي. و هكذا قادت الدولة، و ليس موظفي الدولة ، مسارا أدى إلى نسج ثقة مؤسساتية في صنع واقع جديد لا يحتاج إلى وساطة أوروبية بين الأفارقة. هل قرأنا مدى هلع أعداء مصالحنا و وحدتنا، من زخم إستقبال ملكنا في كثير من عواصم قارتنا الأفريقية. هل نسينا ذلك الانسجام التواصلي بين ملك و رئيس في تانزانيا حين تحول اللقاء إلى تعبير بالإيقاع الأفريقي على الطبول في قصر رءيس الدولة.
ثم جاءت الإجتماعات الاخيرة بمقر الإتحاد الأفريقي باديس أبابا . و سبقتها حملات ديبلوماسية قبل انتخاب رئيس المفوضية و ٥نائبته. كثر الكلام عقب نتائج ،هلل لها نظام العسكر بكثير من التعبير البدائي الرائج في ملعب نيلسون مانديلا بالجزائر، كأنها فتح كبير . اندهش جمع الوزراء و الدبلوماسيون من رفع شعارات كرة القدم داخل محفل أكبر من ” وان تو تري..حمقة فلالجيري”. هكذا سجل تاريخ هذه المؤسسة حالة الجزائر التي جعلت من معاداة مصالح و وحدة المملكة المغربية قضية حياة أو موت، و الأمر يتعلق بحياة أو موت من يقتلون طموح شعب الجزائر في حياة كريمة و توزيع عادل لثرواته. و يصنعون العدو لتغريب الشعب و الهاءه بالكذب و البهتان.
يجب طرح سؤال دور الدبلوماسية المغربية في تأجيج ” لهبال” الجزائري. كانت الأخبار التي تنقل موقف المغرب تؤكد في المقال الأول على ” لجنة الأمن و السلم ” التابعة للإتحاد الأفريقي. تم ترويج خبر قدرة بلادنا على أن حظوظ الجار الشرقي ضعيفة. و هذا خطأ في التقدير. تم انتخاب سلمى مليكة حدادي كنائبة لرئيس المفوضية مكلفة بالشؤون الإدارية و المالية. قيل أن بلادنا دعمت انتخاب محمود علي يوسف وزير خارجية جيبوتي رءسيا للمفوضية الأفريقية. الأمر و ما فيه يتعلق بمهام رسمية لا تخول لحاملها قدرة كبيرة على التأثير على القرار السياسي. و لكنها قد تؤثر على شكل و مضمون التقارير الموجهة للدول الأعضاء. روجت بعض المنابر إلى كون المغرب يحتفظ بمنصب المدير العام للإتحاد الأفريقي في شخص السفير السابق فتح الله السجلماسي. لكن هذا الموقع رهين ببلوغ صاحبه سن التقاعد خلال السنة المقبلة.
يظل الأمر الجوهري في الموضوع هو مستوى مناعة و قوة الدبلوماسية بكل أشكالها في بلادنا. حث ملك البلاد أعضاء البرلمان على اعتبار المهام الدبلوماسية الموازية مهاما قوية و دائمة و لا تنتظر توجيها و لا مناسبة لكي تتحرك للدفاع عن مصالح المغرب. و يظل تحرك هذه المؤسسة خارجيا محكوما بحضور بعض المؤتمرات و بعقلية التناوب على المهام الخارجية في مجال يتطلب مراكمة التجربة و المعرفة السياسية و العلمية بقضايا البلاد. أما دبلوماسية المجتمع المدني فتظل رهينة قلة الإمكانيات المالية و بعض الصراعات الثانوية و تفضيل جمعية على أخرى.
و سوف يظل من يحمل صفة الدبلوماسي الرسمي هو حجر الزاوية في الفعل المؤثر على صلابة موقع المغرب و تأصيل عمل الدولة و استراتيجيتها في كل ما يتعلق بعلاقاتها الخارجية. ظهرت خلال السنين الأخيرة فئات من السفراء لم تكن لها قدرة على حمل صوت المغرب و مصالحه عاليا. أتى جزء منهم من الجامعة و البعض من مخلفات اليسار و أكثرهم ضاق ذرعا بالإيقاع المطلوب لضمان عمل في المستوى المطلوب. أغلب هؤلاء رجعوا بعد فترات وجيزة إلى بيوتهم.
أكد كثير ممن كتبوا في موضوع الاجتماعات الأخيرة للإتحاد الأفريقي على تغييب الكفاءات و التجربة الدبلوماسية المهنية المتاحة لبلادنا. تساءل الكثيرون عن غياب مرصد أو مركز بحث متواصل في المجال الدبلوماسي. لدى بلادنا كفاءات ناذرة و لا زالت قادرة على دعم العمل الفاعل في الدفاع عن مصالح المغرب. يوجد كثير من السفراء الذين تجاوزوا سن التقاعد في كثير من الدول في واجهة العمل الدبلوماسي. و لا نجد في بلادنا حاجة إلى استغلال طاقات كثير من كبار سفراءنا من ذوي التجارب و الخبرات. و تعتبر كثير من الدول أن الدبلوماسية تحتاج إلى من خبروا كواليس التأثير على القرار دون ملل أو كلل. بيت السفير و الوزير المفوض و المستشار بالسفارة جزء من مكان عمله، و ليس خلوة للراحة من تعب يوم في مكتب مريح. و حين يتم تعيين سفير لم يجتز درجات التعلم و الممارسة، فإن أغلب النتائج تكون مخيبة للآمال.
و يجب القول أن الوقت يضغط بثقل لإعادة النظر في أساليب العمل و التعامل مع مسؤولي قارتنا الأفريقية. يجب أن يستمد هذا العمل قوته من منهج ملك البلاد في إحترام الدول الصديقة و غير الصديقة. يعرف كل من عايش مسؤولي دول قارتنا أن خصلة الإهتمام بالغير و الإبتعاد عن كل نظرة فوقية هي مفاتيح الحفاظ على العلاقات لتظل متينة. العلاقات الدبلوماسية تخضع لقانون المد و الجزر و تحتاج إلى لغة تخاطب حكيمة و واقعية و مطبوعة بالقرب المستمر من الآخر.