عندما تتحدث القبور عن التعليم ولغته باختزال يجعل اللغة مجرد حارس للهوية المختزلة بدورها في بعد واحد ديني فاعلم أن المتحدثين من الأموات فكريا وثقافيا ولغويا وأن حديثهم يخص لغة ميتة غير اللغة العربية الحية التي تتفاعل اليوم مع زمنها كي تكون لها مكانة قائمة على قدرتها على السير أماما والتجدد والإبداع،
دلك أن اللغة العربية التي يزعمون الدفاع عنها لغة أخرى محنطة في قلب الكتب الصفراء المغبرة المصنوعة من سعف النخيل وجلود البعير في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، لغة العنعنة والشمقمقة وليس اللغة العربية كما طوعها وقام بتحريرها السياب ودرويش وأدونيس وقباني وغيرهم من الباحثين والمترجمين والصحفيين والكتاب من وثاق متون غير قابلة للمساءلة والمناقشة أوالتتغيير أو الملاءمة، باعتبارها تحظى بقدسية أصنام القبائل العربية وليس النص القرآني الدي متح من لغات الشرق كلها ونحث كلمات وكان مجددا، فاللغة العربية التي يزعمون الدفاع عنها هي اللغة البدوية التي انبنت على عقد ديني-لغوي تأسيسي أأصبح مند وضعه متعاليا يرعاه ويحميه عسس من الفقهاء بسياط من شوك، وهي لغة تم تحويلها إلى شاهد تم نصبه فوق قبور افتراضية لبشر أضفيت عليه صفات الألوهية والنبوة كي ينتهي الكلام ويوصم كل متكلم بالخروج عن الأصول والمروق والكفر والارتباط بالعلوج وغير دلك من كلمات السباب التي تعوض الكلمات المتداولة في الشارع والمعروفة. وهي من دون شك أيضا اللغة العربية التي حجز تطورها وتم إفقار مفاهيمها، بعزلها عن الفلسفة والمنطق والفن بسياج التحريم والتكفير مند البداية، ثم بجعلها بمنأى عن مسار التجريب العلمي والتجديد الفكري وحرية الإبداع في العصر الحديث وعلى كل ما جعل انبثاق التحديث والحداثة وصعود البشرية إلى الأعالي بعد قرون طويلة من الهمود والتكرار والجمود، لقد بقيت لغتهم تلك اللغة المحنطة والحاملة في تكوينها الدائم قحط الصحراء وبداوة ساكنتها وتكفيرهم للفلاحة بحيث تحولت إلى حاجز بحجم سور سجن حال دون خروجهم من المقابر إلى رحابة الحياة ودفقها الدائم وتجددها المتواصل بفضل التواصل والتلاقح بين الثقافات والحضارات وحتى الاقتراض من بعضها البعض من أجل التقدم، الدي صار القيمة الكبرى في زمننا والتي يقاومها المتأخرون بلا هوادة.
إن الخطيئة الجوهرية في حديث القبور ليس في الدفاع عن اللغة العربية، لأنني أدافع عنها من جهتي وأعتبرها لغتي ومكونا من مكونات ثقافتي له مكانة خاصة في وعيي قبل لاوعيي وفي وجداني، بل في كونه يقوم بعملية اختزال للغة نفسها، لأنه يخاف عليها من العلمنة التي تترتب عن تطورها واستيعابها للعلوم الحقة والإنسانية، والأهم من دلك أنه يقوم بتجاوز خطير لابد أن يستنفر شعور الإنتماء للمغرب فينا، إد يقوم بإفراغ دلك الإنتماء الوطني-الترابي-الثقافي من محتوياته المتعددة والثرية والمتنوعة،بل ويستهين بوجودنا الوطني-السياسي في إطار دولة وطنية لها تكوينها السياسي والبشري والثقافي الدي يجتمع فيه ماهو حاضر ومستقبلي بالموروث عن ماض له ماله وعليه ماعليه، فالمغرب بالنسبة لأصحاب حديث القبور ليس له وجود خاص سياسي في العمق إلا مؤقتا، لأنهم يرونه جزء من وجود أنتربولوجي لأمة هلامية عربية وإسلامية في دات الوقت ومستقبلها أن تجتمع تحت راية خلافة إسلامية تعيد تجميع أطراف الأمبراطورية وتخضع الجميع للغة واحدة في الصيغة المقعدة من طرف النحاة والفقهاء والوعاظ.
إنه تطرف من عملوا في وقت سابق على إحداث شعبة الدراسات الإسلامية لتحل محل شعبة الفلسفة والعلوم الاجتماعية بكليات الآداب، ولا عجب أن يكون محمد بلبشير الحسني الإخواني الأول محدث الشعبة من الموقعين على الوثيقة، ومن ألغوا الفلسفة في الثانوي وعوضوها بالفكر الإسلامي وساهموا في تهيئة الأرضية لاستحواد التيارات الإسلامية على الجامعة والمدارس ثم الحياة العامة، وهو تطرف لايكاد يخفي حقيقة رغبة في جعل اللغة العربية، كما يرونها، وسيلة لنشر القيم الرجعية وحماية التأخر من رياح التحديث والحداثة ومقاومة التقدم الدي يفتح الأعين والعقول ويجعل آفاق الناس أرحب، وهو تطرف أكثر خطورة من تطرف بعض الحمقى الدين يجعلوننا ملحقة لفرنسا ناسين أو متناسين أن المغاربة ناضلوا من أأجل استقلالهم وضحوا تضحيات جسام من أجل رد مختلف الغزوات الاستعمارية والامبريالية على مدى قرون، وأيضا بعض القبليين المتأخرين الدين يمضي بهم الأمر إلى حد إنتاج خطابات عنصرية تروم خلق الشتات والنزاعات بين المغاربة الدين ينتمون كلهم لأصل إفريقي-أمازيغي-عربي ومتوسطي ولا يمكن التفريق بينهم إلا إدا فسدت النوايا والأهداف أو تمكن إغراء “البوز” والشهرة، وكما قال الأستاد محمد عابد الجابري فالمكان الطبيعي للتطرف والمتطرفين هو الهامش، وعندما يتجاوز التطرف هدا الهامش ويصبح له حضور كبير فاعلم أنه تعبير عن أزمة عميقة، أزمة مجتمع.
والتطرف الدي يعكسه حديث القبور، بتحريض من عبد الإله بنكيران الآيل للزوال، كما تعكسه أحاديث متطرفة مضادة علامة أزمة حقيقية نعيشها بسبب حالة من الحجز التي يعتبر انتشار الظلامية الإسلامية من أسبابها، لكنه ليس السبب الوحيد، إد يعي المغاربة اليوم أن سيطرة أوليغارشية مفترسة على ثروات البلاد واقتسامها لها وتدميرها لكل ماهو اجتماعي وللخدمات العمومية في سياق فرض نمودج ليبرالية متوحشة هجينة تتأسس على الريع والنفود والسلطة هي السبب الرئيسي للمشاكل الكبرى، بما في دلك خراب المدرسة العمومية الدي وفر أأرضية مناسبة ومناخا ملائما للظلامية.
محمد نجيب كومينة / الرباط